شكّل الارتباط بين الفكري والسياسي عبر العصور محورًا أساسيًّا في صوغ الصراعات في العالم وبلور العنف بوصفه شكل من أشكال المشروعية اللازمة لاستمرار المجتمعات الانسانية؛ هذا التصور ظل ماثلا ومسيطرا على الأفكار والعلاقات ولم يستطع المثقف والمفكر العربي الانفلات منه حتى الآن.
لقد مارس quot;الفكريquot; لا سيما في الفلسفة العربية دورًا quot;تمويهيًّاquot; معتمدًا على quot;الخطاب القرآنيquot; بوصفه نصًَا إلهيًّا يمنح الشرعية اللاهوتية، ويكون النص المنبثق عنه بمثابة حقيقة مطلقة تُعْتَمد لإرادة الهيمنة وإدارتها، و عبر هذه النصوص منحت السلطة السياسية نفسها بُعدًا quot;ربّانيًّاquot;، مُكرسّةً بذلك حكمًا ثيوقراطيًا من خلال دمجها اللاهوتي بالسياسي بإحكام.
هذه العملية quot;الارتهانيةquot; التي سَخرت كلّ ما هو فكري لخدمة quot; السياسيquot;، ادخلت الشعوب العربية والاسلامية في أتون من العنف الدائم و المبرر؛ والمتطلع الى سيرورة تاريخ الحضارات، يجد انها ترتكز على quot;الفتوحاتquot; وquot;الغزواتquot; بوصفها حروبًا quot;عادلةquot;، وبطبيعة الحال فإن المرتكزات مستمدة عبر quot;فقهاءquot; ذاك الزمان و مفكروه لجعل تفسير quot;الخطاب والنصquot; يتوافق مع الممارسات السياسية؛ ولعل الصراعات التي شهدتها الحقبات المتعاقبة خير دليل على ذلك، فما السجالات المتعاقبة بين quot; علماء الرأي quot; من أهل أصول الفقه وعلماء الحديث quot; من التيار السلفي الا صراعًا حول quot;المرجعية quot;، والامثلة على ذلك اكثر من تحصر وما صراع المعتزلة مع الجبرية الا نموذجًا آخر له، وهو النموذج quot;المشرعquot; الذي يختزن في صميمه محاولة لايجاد الصيغ التلفيقية التبريرية quot;لعنف السلطات وبلطجتها quot; ليس إلا.
والأمر لم يختلف بمرور الازمان والايام في واقعنا الفكري المُعاش، فما زلنا حتى الان نرزح تحت هذا العبئ التاريخي وما زال مفكرونا وسياسينا يعيدون انتاج شروط لعبتهم وعقدهم الضمني التاريخي مع quot;السياسي، وان كانت المسميات اختلفت بطبيعة الحال، فإن المشهد تغير في صورته دون ان يفقد من مضمونه الجائر شيئًا.
فذهنية سلطة الانظمة السياسية التي اكتسبت quot;مشروعيتها الالهية quot; تحت مسمى quot;خلافةquot;، ما تزال سائدة وان اختلفت التسمية لتصبح quot; مملكة quot; او quot; جمهورية quot; او quot;امارةquot;؛ و رأس السلطة السياسية الذي كان quot;خليفةquot; وظلا لله على أرضه، أصبح الان quot;رئيسا quot; او quot;ملكاquot; او quot;اميراquot;... ولكنه مازال يمارس عنف السلطة منزهًا نفسه عن كلّ نقيصة؛ بل لعل هذا الأخير أسوأ من سابقه إذ أنه يَعمد الى استفتاءات او quot;انتخاباتquot; شكلية، يريد ان يقنع العالم من وراءها بنزاهته وحسن أدائه، ممارسًا بذلك قمعًا مركبًّا، و دورا اشد لاهوتيّة من دور quot;الخليفةquot;، حيث انه يستتر خلف شعارات quot;أمنية وقومية وعلمانية، وحتى ديموقراطية...لقد استُبدِلَت العباءة بquot;الطقمquot;، والعمامة ب quot;البرنيطة quot;، واستبدل quot;فقهاءالبلاطquot; بطبقة من quot;المثقفين المأجورين في الوزارات.
ما يهمنا من هذا التوصيف والتحليل للخطابات المنتجة في السياق الحضاري والثقافي والتاريخي، انها جميعها اعتمدت على منحى quot;إقصائيquot; بحيث بقي منبع الاهتمام بالفلسفة والمحرك لها عند quot;المسلمينquot; تحديدًا، منطوي داخل الوسائل المؤدية الى الممارسة السياسية التي تختزل كلّ المنافع المادية، بحيث تبقى الدوامة الدائرة لا تتجاوز في كون المفكر يتحرك في ضوء السلطة، والوصول الى السلطة يعني جني كل ربح مادي.
وهنا نجد الاجابة عن السؤال الاشكالي المطروح دائمًا، وهو لماذا لم تلعب الحركة الفلسفية في الحضارة العربية ما لعبته في الحضارات الاخرى؟؟ والسبب الاساس هو كون quot;السياسيquot; المالك لquot;المادةquot; هو الذي يقف دائمًا وراء اي حركة كما يقف وراء اي تعطيل.
هذا المشهد الدراماتيكي ازداد بشاعة وشناعة مع توسع أدوات النفوذ المادي في ظلّ تحكم القطاعات الرأسمالية بحيث تعملق العنف وادى الى تفاقم النتائج الكارثية، في ظل تحكم ثالوث quot;السلطة ndash; الاقتصاد الاستهلاكي ndash; الايديولوجياتquot; بكافة الانشطة بما فيها الفكرية، مدمرًّا بذلك وقبل كل شيئ الكائن المسمى إنسانًا، وقاضِيًّا على أي فرصة للنهوض الانساني.
ان عملية فك الارتباط المحكم الذي زجنا به معظم المفكرين والفلاسفة العرب لا يعني انكار حقيقة ان ممارسة العملية الفكرية هي في عمقها ممارسة سياسية، ولكن ذلك لا يعني أن يتنازل الفكر عن ادواته وآلياته لصالح الثاني ولا ان يتنازل هذا الأخير لاحتكارات رأسمال، بحيث يصبح الفكر دائرًا في فلك السياسي و الجميع يعمل مجنّدًا في خدمة المادة في حلقة من العنف المولَّد.
إذن لا بد من طرح مقاربة فكرية تعمل على قطع الارتباط العلائقي للثالوث المذكور كون الظواهر الاجتماعية والثقافية والمؤشرات السلطوية لا قيمة لها quot;بنفسها او بحدّ ذاتها quot; بل بجملة العلاقات التي تتحكم بها وبالروابط التي تؤلف هذا النسيج، ويتجلى فك الارتباط بمحاور عدة منها:
المحور الأول: اعتماد التفكير الابتكاري المبدع
ويتجلى من خلال اعتماد استراتيجية تفكيكية للعلائق عبر النقد التحليلي الذي لا يكتفي بتوصيف الاحداث، ولا يعتمد على العقلانية المفرطة او المنطق الارسطي القائم على تفكير quot;خطيّquot; ذو البعد الواحد المختزل، بل يتجاوز الابعاد ليصل الى حلول نوعية مبتكرة تعتمد تفكيرا quot;حلزونياquot; اكثر تكاملا.

المحور الثاني: الدلالات الرمزية للمعنى هي ذات بنية تفاضلية
وذلك باعتماد استراتيجية جديدة تخرج من الاطار الدلالي المعروف الذي يتحكم بالفكر، لان الدلالات الرمزية المنتجة لأي معنى هي ذات مستويات متعددة وبنية تفاضلية وغير خاضعة للمنطق الارسطي والثنائيات الضدية، في ظل امكانية وجود ابعاد ومستويات واقع متنوعة، هذا الطرح يتجازوز العقائد والايديولوجيات ولا يلغيها.
المحور الثالث: رؤية الواقع بمنظور جديد
إن اهمية العناصر المؤلفة لاي علاقة كونها تكمن بالموقع التي تتواجد فيه ضمن البنية الواحدة، عندها يكون اي تغيير يطرأ على واحد منها سيؤثر على العناصر الأخرى، أما اذا انفكت هذه العناصر عن موقعها فإن التغيير الذي يطرأ على أحدها لا يؤدي بالضرورة الى تغيير العناصر الاخرى. فالخروج من quot;الواقعيةquot; المطلقة يؤدي الى نقلة نوعية في الفكر الانساني نحو افق أكثر تكاملا يتعدى الابعاد الزمانية والمكانية.
المحور الرابع: هو في إضفاء بُعد أنطولوجي
إن إضفاء بعد انطولوجي quot;كونيquot; على المفاهيم من شأنه أن يحررالكائن من وحشية المادة المسيطرةالتي تختزل الانسان في بعده الاستهلاكي في اطار العولمة الاقتصادية، كما تعيد الاعتبار للحدس الكامن في كينونة الانسان وعلاقته بالكون والمكون.
أخيرا،،
لا اريد من طرح هذه المقاربة quot;الكونيةquot; تعميق اتجاه غنوصيّ او باطني لاعقلاني، كما ان عملية التفكيك الفكري للايديولوجيات المسيطرة لا تهدف الى إنشاء أيديولوجية جديدة ترضي quot;الجميعquot;، فليست وظيفة المفكر البحث عن حلول quot;ارضائيةquot; للمجتمعات أو تبريرية ملفقة تأتي على مزاج أحد من العالمين، بل جل ما يُطرح هو استلهام للحكمة بوصفها خلاصة للتجارب الانسانية المشتركة بمعزل عن الحضارات وتعاقبها، للكشف عن المعرفة كوظيفة وجودية، الامر الذي يخرجنا من دائرة عنف ثالوث (السلطة ndash; المال ndash; الايديولوجية) القائمة على الاستئثار والتعالي الى افق اكثر تعاونًا وتواضعًا، لان هذه المفاهيم تحرر الذات من عنصريتها وفوقيتها quot;الخالدةquot; وتخرج الهوية من برجها العاجي نحو افق كوني واسع كما تتيح فرصة تحقيق معرفة بالانسان والوجود أكثر تكاملا وعمقًا.
[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com