تسرع العديد من المحللين ولوحوا منذ شهور بامكانية انهيار النظام الرأسمالي نتيجة الأزمة المالية العالمية والتي بدأت تعصف بالاقتصاد العالمي عموماً وكانوا متأثرين في ذلك برأيي بمعاداتهم للنظام الرأسمالي مبتعدين عن التحليل الموضوعي لطبيعة هذا النظام الذي تميز بأزماته الخطيرة وبقابليته على التكيف معها طيلة القرون الماضية. وإذا تجاوزنا خسائر وأرباح هذه الشريحة أو تلك أو الجوانب التقنية لمظاهر الأزمة، فان نتائج قمة لندن تشير الى أن الرابح الأكبر على مستوى تاريخية الحدث هو النظام الرأسمالي. حيث عرف هذا النظام خلال قرنين من الزمن العديد من الأزمات المهمة وحتى الخطيرة (انظر إيلاف 12/10/2008) واستطاع تجاوزها، ويشكل التغلب على الأزمات والخسائر الناتجة عنها مصدر قوة لهذا النظام لاستفادته من التجربة واكتسابه المزيد من القوة.
لقد انعقدت قمة لندن، يوم 2 نيسان/أبريل 2009، في ظروف في غاية الخطورة، وتضم مجموعة العشرين أهم وأغنى دول العالم الرأسمالي وتوابعه، سواء كانت النمور الآسيوية الصاعدة أو غيرها. وقد كثرت تعليقات المراقبين المتشائمين (انظر مثلاً بيير أ. دلوميه، اللوموند 1-2/3/2009) حول مدى إمكانية هؤلاء القادة على تقديم علاج حقيقي للأزمة التي باتت تهدد ثوابت الاقتصاد العالمي. وقد استندوا إلى تمسك كل دولة بمصالحها ونظرتها لمستقبل الأزمة وركز بعضهم اهتمامه على دعوة الصين لتبني عملة أخرى بديلة للدولار في التبادل التجاري العالمي، وشددوا على قوة الصراع بين الدول الآسيوية الصاعدة وتلك الماسكة بالنظام القائم. ثم بالغوا، قبيل انعقاد القمة، من أهمية الخلاف المحتدم بين فرنسا وألمانيا من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، أي بين من يؤكد على ضرورة تنظيم المالية العالمية وفرض نوع من الرقابة القانونية عليها وبين من يؤمن بضرورة ضخ مبالغ إضافية لتسهيل التمويل وتحريك المبادرات الاقتصادية. ولكن القادة المشاركين في هذه القمة والقائمين على النظام الاقتصادي العالمي، سواء اعتقدنا بعدالته أم لا، كانوا على مستوى مسؤولياتهم كما يبدو لحد الآن وكذبوا المراهنين على فشل قمة لندن، حيث لم تصدر عنه قرارات رنانة تعبر عن سيطرة هذا الفريق أو ذاك، بل حصل التبني الجماعي لأفضل ما يمكن من قرارات تأخذ بصواب ما في المواقف وتأخذ بالاعتبار قدر الإمكان مصالح جميع الأطراف، وهي تتطلب المتابعة طبعاً للتحقق من نجاحها فعلاً على أرض الواقع. وقد اعترفت بذلك نفس صحيفة اللوموند (في افتتاحيتها، عدد 4/4/2009).
وبشكل عام يمكن اختصار أهم ما أنجزته قمة لندن كما يلي:
- ضخ الأموال: حيث تقرر ضخ 5000 مليار دولار الى نهاية 2010 لتقوية النمو وزيادة فرص العمل للعاطلين وتوفير القروض لتشجيع المبادرات والاستهلاك وتنشيط قطاعات الاقتصاد المختلفة.
- صندوق النقد الدولي: تقديم 850 مليار دولار لتعزيز إمكانياته على منح القروض الى الدول الفقيرة والدول المهددة بتفاعلات الأزمة وتقوية موقعه كمركز تنظيم ومراقبة المالية الدولية.
- تشكيل مجلس رقابة الاستقرار المالي يقوم بالتعاون مع صندوق النقد الدولي برصد الممارسات الخطرة في مختلف مجالات المالية العالمية.
- نظام جديد: تمت صياغة نظام يتضمن قواعد واضحة بشأن إنهاء الأسرار المصرفية التي حكمت العالم لعقود من الزمن، محاصرة تهريب الأرباح حيث وضعت ثلاث لوائح (سوداء ورمادية وبيضاء) لدول أو مواقع الفردوس الضرائبي، لدفعها إلى المزيد من الشفافية والتعاون الضريبي على المستوى الدولي، الخ. إضافة الى الاهتمام بالتنمية الدائمة ولا سيما فيما يتعلق بالدول الفقيرة.
- محاربة سياسة الحماية: من خلال التأكيد على ضرورة استمرار انفتاح السوق العالمية.
- قيادة أمريكية جديدة : تبنى الرئيس باراك أوباما نهجاً جديداً وذلك بدفع قادة الدول الى الاضطلاع بمسؤولياتهم بتسهيل النقاش فيما بينهم ودفعهم إلى الاتفاق، أي تصرف على طريقة القيادي لا من موقع السيطرة كرئيس أقوى دولة والاقتصاد الأول في العالم.
- وقد تم تحديد موعد لاجتماع مقبل سيعقد في الخريف القادم في نيويورك، وربما يتطور الأمر إلى تشكيل مؤسسة دائمة لمجموعة العشرين.
وهكذا قدم قادة العالم الرأسمالي مثلاً آخر على ما يمكن تسميته بذكاء المصالحة (أي قبول التنازل بدل التطاحن، عندما لا يسمح توازن القوى بتفوق حاسم لصالح أحد الأطراف)، وذكاء المصالحة هذا ساهم بدرجة قوية في تقدم العالم الغربي منذ قرون، كما سبب غيابه في عقلية الاستبداد المسيطر علينا منذ قرون إلى تأخر شعوبنا وتدمير بلداننا (حيث كلمة الحاكم بأمره والقائد الضرورة quot;ما تصير اثنينquot;). من جهة أخرى، أثبت النظام الرأسمالي قدرته على التكيف مع الأزمات، وهذا ما لم يخطر حتى ببال مفكر مثل كارل ماركس الذي درس الرأسمالية وقدم نقداً أساسياً لها. وهذا لا يعني امتداح هذا النظام بل تقرير لواقع قوته الهيكلية والديناميكية والمالية. وتستند هذه القوة في نظري على أربع دعائم أساسية تكرست عبر تاريخه الحديث، ويمكن أن تؤدي دورها في أي مجتمع بالتفاعل الطبيعي مع منظومة القيم السائدة فيه وربما تعطي نتائج مغايرة للنظام الرأسمالي الغربي:
1-المبادرة الاقتصادية، في إطار حرية ينظمها القانون ويحميها في ذات الوقت
2- تقديس الملكية الخاصة (وانتقلت الى الغرب ضمن الإرث القانوني الروماني)
3- الديمقراطية وتطوير آليات المشاركة السياسية في إطار دولة القانون
4- التأكيد على موقع الفرد (القانوني) وأهمية إبداعاته ومبادراته الفكرية والفنية
لقد تعاظمت قوة هذا النظام (الرأسمالي) رغم تعدد الجوانب السلبية وكثرة ضحاياه على الصعيد الداخلي (استغلال العمال وانزواء المعدمين وانتشار الجريمة، الخ)، ولكنه استطاع التكيف خلال القرن العشرين مثلاً:
1/ بقبول الحركة العمالية الناقمة وتحويلها الى حركة مطلبية ضمن التنظيمات النقابية.
2/ وتحديد الاعتراض السياسي في قنوات معينة من خلال توسيع دائرة الانتخابات وتطوير آليات المشاركة في عملية اتخاذ القرار في مختلف المجالات.
3/ وتبني مبادئ العدالة الاجتماعية لتقليص الفوارق الطبقية.
وعلى المستوى الدولي، دمر التوسع الرأسمالي الاستعماري الكثير من البلدان ولا زالت آثار هيمنته تساهم في إفقار شعوب هذه البلدان المتخلفة حتى بعد تمتعها بالاستقلال السياسي الصوري إلا في حالات معينة معروفة. أما التبعية الاقتصادية، فلا زالت تكبل الشعوب بقيود الفقر والجهل والمرض. أما في المجال الثقافي، فلا زالت الغالبية الكبيرة من أبناء هذه الشعوب مصابة بالانبهار بمظاهر التقدم الحاصل في البلدان الرأسمالية وباللهاث وراء سطحيات النموذج الثقافي الذي تقدمه هذه البلدان، لا سيما في عصر العولمة والتواصل عبر الحدود. واليوم عندما نقارن بين مجتمعاتهم المنتجة المتجددة ومجتمعاتنا المتهالكة، وفيما يخص موضوعنا بين اجتماعات قادتهم وقمم قادتنا، يفرض علينا الموقف العقلاني والوطني أن نكفّ عن لعن الماضي والتغني بالأمجاد لكي نبدأ بتشخيص المستلزمات الضرورية لبناء مجتمع الغد والعمل على توفيرها.
وتضمن الدعائم الأربعة التي ذكرتها آنفاً إمكانية احتواء مختلف العناصر والمصالح بشكل حيوي في تفاعل/صراع حقيقي بين المواقف المختلفة كضمان لفعالية أكبر، إن تعدد المقترحات والطروحات هو الذي يسمح باختيار ما هو أفضل من بينها. وهنا تشكل الحماية القانونية لمختلف الأفراد ضرورة لا بد منها لتأمين حيوية المجتمع واستمرار تقدمه. بينما تتسلط الأنظمة المستبدة، مهما كان لونها وفكرها، على ثروة المجتمع ولا تسمح إلا بما تراه مناسباً لرؤيتها ومصالحها كسلطة وتؤدي بالتالي وبعد فترة قد تطول أو تقصر حسب نوعية البدايات، إلى قمع المبادرات الفردية والجماعية وإلغاء الآخر وبالتالي إلى خنق العفوية وقتل الطاقات وتجميد المجتمع.