بين لبنان وسوريا تاريخ حافل. دخل الجيش السوري في العام 1976 عندما استدعته القوى المسيحية ممثلة بالجبهة اللبنانية التي كانت تخوض حرباً ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط. وتدخل الجيش السوري في احداث العام 1958 مغلباً وداعماً القوى الإسلامية ndash; العروبية، في مواجهة القوى المسيحية التي تضامنت مع حلف بغداد. خرج الجيش السوري في العام 1982 من بيروت الجبل وبقي متمركزاً في البقاع، إثر الإجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت عام 1982، ثم عاد الجيش السوري إلى بيروت بعدما ضاق اهل بيروت ذرعاً بممارسات الميليشيات في المدينة، ليعود ويخرج عام 2005 بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.
اليوم ليس ثمة من يقول ان الجيش السوري عائد إلى لبنان، لكنه قد يعود.
مع ذلك يجدر بنا تسجيل بعض المتغيرات والملاحظات على الدور السوري المتجدد في لبنان.
واضح للعيان ان سوريا عادت إلى لبنان من نافذتين: نافذة حزب الله الوثيق الصلة بإيران والمتحالف معها، والذي تربطه شبكة مصالح معقدة مع سوريا تبدأ بالتسليح ولا تنتهي بتشابه الشعارات. ونافذة التقارب السعودي ndash; السوري الذي جعل السنة في لبنان الذين تربطهم علاقة وثيقة بالمملكة العربية السعودية، يقبلون بأخذ مصالح سوريا في اعتبارهم.
النافذتان السوريتان لم تتحولا بابين، والأرجح انهما لن تتحولا. ذلك ان لإيران في حزب الله اكثر بكثير مما لسوريا، كما أن العلاقة بين الزعامات السنية في لبنان وقادة الممكلة العربية السعودية لا يمكن مقارنتها من حيث وثوقها وصلابتها بعلاقة هؤلاء مع القيادة السورية. والاهم من ذلك ان ليس ثمة بين الأطراف اللبنانيين من استنجد بسوريا لتنقذه من خطر محدق، ومن تطويق وعزل سياسيين. بل ان العكس صحيح. إذ ساهم حزب الله اللبناني بفك طوق العزلة اللبنانية عن سوريا، وصنع لها موطئ قدم بقواه الذاتية. والحال، ليس حزب الله في حاجة لدعم لوجستي سوري ليفرض ما يريد فرضه على شركائه في البلد. كذلك فإن وقائع السنوات الماضية اثبتت ان السنة لم يخضعوا للضغوط التي مورست عليهم بغية تسليمهم بضرورة اعطاء سوريا دور مميز ومهيمن على الوضع اللبناني.
في المقلب الآخر، لا احد يفكر مرتين قبل ان يقول ان الموارنة يقعون خارج هذا الموضوع جملة وتفصيلاً، بمن فيهم ميشال عون اقرب حلفاء سوريا الموارنة واكثرهم تأثيراً.
رغم ذلك لا مفر من الاعتراف ان حزب الله، وهو القوة الأساسية في المعارضة اللبنانية، يعترف منذ البداية بمصالح سوريا في لبنان وبضرورة ان يقيم معها لبنان احسن العلاقات. وعلى المقلب الآخر، لا يمكن القول ان السنة اللبنانيين اليوم يعارضون مثل هذا التوجه، وحتى الموارنة لا يرون في ما سبق ما يثير ريبتهم.
الخلاصة: اللبنانيون جميعاً يعترفون ان لسوريا تأثيراً على الوضع اللبناني وينبغي عليهم مراعاة مصالحها. لكن الخلاصة الأهم من هذا كله، ان اللبنانيين وغير اللبنانيين يعرفون ان مصادر قوتهم ومواردهم الأساسية لا تأتي من سوريا ولا تستطيع سوريا التأثير على مسارها.
والحال، فإن الحديث عن عودة هيمنة سورية لا يبدو حديثاً في محله. لكن ذلك لا ينفي ان سوريا قادرة على التعطيل، لكنها من دون شك لم تعد الطرف الذي يستطيع الحل. لأن عقدة الحل والربط في ايدي اللبنانيين من جهة اولى، وفي ايدي اطراف خارجية سوى سوريا من جهة ثانية. كما لو ان الوضع الحالي في لبنان جعل من سوريا الطائفة العشرين التي اضيفت إلى طوائفه التسع عشرة. لها مصالحها، ولها وزنها، وهي قادرة على التعطيل وماهرة في طلب حصتها والمفاوضة عليها من الجبنة اللبنانية، لكنها ليست من يوزع الكعكة اليوم.
سوريا التي جربت حظها في لبنان طويلاً، خرجت منه اقل وزناً مما كانت عليه قبل ان تدخله. هذا ليس بسبب رمال المستنقع اللبناني المتحركة فقط، بل ايضاً وعلى الأرجح بسبب السياسات السورية المغامرة، التي حولتها من دولة مركزية في الشرق الأوسط إلى طائفة تضاف إلى طوائف لبنان المتعددة والمتناتشة، لها في الأمن وليس لها في السياسة.