بلال خبيز*
يبالغ المحللون في تقدير نتائج الاضطرابات الإيرانية. العناوين تتراوح بين: هل بدأ التغيير؟ وإيران على طريق المجهول؟ لكن متابعة دقيقة للشؤون الإيرانية لا تودي إلى مثل هذه الاستنتاجات.
حين يتحدث انصار احمدي نجاد عن تدخل خارجي في إيران فإنهم يقولون حقاً. لكن الاعتراف بتدخل اجنبي في إيران ينفي خطاباً تحريضياً سابقاً لهؤلاء والرئيس نجاد في مقدمهم، الذي لا يزال يكرر هو وقادة الحرس الثوري الإيراني ان إيران باتت دولة عظمى، بل ولم يتورع عن المطالبة في مناسبات عديدة بتنظيم قسمة النفوذ في العالم بين ايران والولايات المتحدة. حيث يعتبر الرئيس نجاد ومناصروه ان اصابع إيران الطويلة تطال حدود الولايات المتحدة الاميركية، عبر المكسيك تهريباً لمقاتلين ومناصرين، كما تقول تقارير السي. آي. أيه. وينظر إليها الإيرانيون بعين الرضا والتفاخر، وفي فنزويلا وكوبا، بافتراض ان إيران هي وارثة العرش السوفياتي في مقارعة الإمبريالية، وفي الاوروغواي والباراغواي، عبر سيطرة انصار quot;حزب اللهquot; على مرافق اساسية في البلدين. ويخلص الخطاب النجادي إلى افتراض ان مصالح إيران تتعدى حدود الخليج الفارسي او العربي، وبلاد ما بين النهرين وبطن مكة والحجاز، والمرور عبر فلسطين ولبنان في طر يقها إلى مصر او عبر مصر في طريقها إلى فلسطين، وصولاً إلى افريقيا من دون تمييز وتحديد، إلى آسيا، حيث يقع مجال روسيا الحيوي، وصولاً إلى الكوريتين، حيث عيون الصينيين واليابانيين مفتوحة على آخرهما.


هذه السياحة السياسية العالمية تفترض ان إيران ليست دولة كبرى وحسب، بل هي الند الفاعل والحقيقي للولايات المتحدة. وإذا ما ذهب هذا التحليل حتى نهاياته المنطقية، يمكن القول ان الخطاب النجادي يؤمن ان الولايات المتحدة كأمبراطورية كبرى تسير في طريق انحداري، يبدأ بهزائمها في العراق وافغانستان ولبنان وغزة، ويصل إلى الانهيار الاقتصادي الذي اصابها (هل كان انهياراً حقاً؟) وافلاس شركة quot;جنرال موتورزquot; وشراء شركة quot;فياتquot; الإيطالية اسهم شركة quot;كرايزلرquot;. في حين ان الامبراطورية الإيرانية هي امبراطورية شابة وما زالت تسير في طريقها صعوداً.
والحال، لا يعود مفهوماً وفق هذا الخطاب كيف يكون التدخل الخارجي فاعلاً في ايران إذا كانت إيران قوية إلى هذا الحد، وأقوى من أميركا نفسها. وما دام الشيء بالشيء يذكر، يحلو للمعارضة اللبنانية وعلى رأسها quot;حزب اللهquot; القول ان هذه المعارضة خاضت خلال الانتخابات الاخيرة حرباً عالمية تألبت فيها كل قوى العالم ضدها، ونجحت في المحافظة على مواقعها، وهذا لو صح اكثر من انتصار.


اختيار هذا المدخل لمناقشة ما يجري في إيران اليوم، ليس اعتباطاً ولا أمراً عارضاً. المشكلة الإيرانية اليوم تكمن في نظرتين داخليتين إلى إيران: نظرة من يوالون موسوي ممن يوصفون بالمعتدلين والمنفتحين والإصلاحيين، والتي تعتبر ان إيران تكابر وتغالي في تقدير قوتها، وان المقياس الحقيقي لقياس مدى القوة لا يتصل بالنبرة المتحدية، بل يكون القياس بناء على مؤشرات داخلية فعلية، من قبيل حجم الدخل الفردي، والتطور الصناعي والتجاري والتقدم العلمي، وصولاً إلى رسوخ النظام العام، وقدرته تالياً على منح الشعب الإيراني حرية القول وابداء الرأي واختيار نمط العيش الذي يريد. والحق ان هذا التيار وازن وحاشد في إيران، وله مراكز قوته ومكامن نفوذه في قلب النظام حتى.


النظرة الثانية هي نظرة من يوالون نجاد ومن يوصفون بالمتشددين والمحافظين، وهؤلاء يعتبرون ان إيران في ظل حكم نجاد حققت نجاجات باهرة، بل واصبحت القوة الوحيدة التي تستطيع تحدي العالم كله من دون ان يستطيع هذا العالم ان يؤثر في مدى قوتها ولو تاثيراً بسيطاً، ويضيفون أن ايران نجاد خاضت حروباً متفرقة ضد المعكسر المعادي الذي تقوده الولايات المتحدة وانتصرت في كل حروبها، من باكستان النووية، إلى افغانستان فالعراق ففلسطين فلبنان، وحتى مصر بحسب اعلان السيد حسن نصرالله. وان اميركا بكل جبروتها تجر اذيال الهزيمة والخيبة في كل مكان والمنتصر الوحيد في هذه الحروب هو إيران وحدها.


المؤيدون لنجاد هم في غالبيتهم من الطبقات الأكثر فقراً من الشعب الإيراني، وهم اكثر حشداً في الأرياف منهم في المدن، وهذا امر له أثره في الخلافات الحالية، فالطبقات الأكثر فقراً في المجتمع لا تتحسس الأزمات الاقتصادية بالسهولة نفسها التي تتحسسها الطبقات المتوسطة. حيث تشكل الطبقات المتوسطة، وهي عماد مناصري موسوي والإصلاحيين في إيران، البارومتر الدقيق الذي يتحسسس الأزمات منذ ان تلوح نذرها في الأفق. أي منذ ان تخف وتيرة الأعمال التجارية، ويقنن الاستهلاك، وتتضاءل ارباح الاعمال، وايضاً منذ ان يبدأ التضخم وغلاء الاسعار وفقدان السلع من الأسواق بتهديد نمط حياتها. وتالياً فإن الطبقات المتوسطة تشرع في الصراخ والتذمر ما ان تظهر هذه الإشارات في اي مجتمع من المجتمعات. وواقع الحال ان هذه الطبقات في المجتمع الإيراني ترفع الصوت منذ زمن، لكن صوتها كان مسموعاً على نطاق اوسع قبل ان يحكم نجاد. ذلك ان انجاز محمود احمدي نجاد الكبير تمثل في تسييس الطبقات الفقيرة وشرائح المجتمع غير المديني، وهذه طبقات وشرائح تقيم وزناً فائضاً لاعتبارات اخلاقية من قبيل الكرامة والعزة والقوة والصمود، ولا ترى في تردي الاوضاع الاقتصادية والأزمات الاجتماعية والتعليمية والثقافية خطراً داهماً. والحق ان نجاح محمود احمدي نجاد عبر خطابه الشعبوي في تسييس هذه الطبقات، مدعوماً من سدنة النظام الجدد، في الحرس الثوري، جعل المجتمع الإيراني منقسماً انقساماً حاداً. وعمت بين فئتيه المتعارضتين مشاعر الازدراء والحقد المتبادل، مما جعل التعايش بين الطرفين يكاد يكون مستحيلاً.


فوز نجاد بولاية مجددة لم يكن ليثير هذه الأزمة كلها، لو ان سبل التعايش بين الفئتين المتنازعتين في المجتمع الإيراني ما زالت مفتوحة او ثمة بصيص أمل لاستعادتها. وعلى اي حال لم يفعل نجاد طوال فترة حكمه سوى دفع خصومه إلى ازدراء خطابه الشعبوي واحتقار سلوكه السياسي. في وقت كان بيني بتؤدة واصرار جمهوراً جديداً، ليس قادراً على حمايته وحسب بل قادراً على قمع الخصوم أيضاً إذا ما وصلت الأمور إلى حد معين.


الملحللون الذين يتابعون الوضع الإيراني ربما نسوا تجربة شافيز مع الانقسام الاجتماعي. يوم ثارت الطبقات الوسطى في فنزويلا ومشت في تظاهرات حاشدة وأقفلت البلاد شهوراً، وحالت دون استطاعة القوى الأمنية الإيغال في القمع، بسبب من قدرة القوى المعارضة على التحشيد، بما يمنع القوى الأمنية من إعمال سيف القمع فيها. ذلك أن الاجهزة الأمنية حتى في اكثر الأنظمة غلواً في القمع لا تستطيع قمع شعب ثائر ومتظاهر برمته. لكن التظاهرات في فنزويلا انتهت وذهب الناس إلى بيوتهم بعدما حشد شافيز انصاره من الطبقات الأشد فقراً ونطموا تظاهرات مضادة، كانت في حقيقة امرها اكثر وسائل القمع نجاعة وعنفاً واقلها عرضة للمحاسبة والعقاب.
في عالم اليوم يد السلطات في أعمال القمع ليست مطلقة، لكن أحداً لا يستطيع محاسبة نصف الشعب على قمع نصف الشعب الآخر. هذا في واقع الامر حدث في لبنان وغزة، ويحدث الآن في إيران، ومعلوم ان ايران تعتبر ما جرى في غزة ولبنان جزءاً من إنجازاتها الباهرة.
* كاتب وصحافي وشاعر لبناني، مقيم حالياً في لوس أنجلس.