منذ نحو شهر تقريباً أعلنت الصين عن خطة مقترحة لتسوية الحرب الدائرة في أوكرانيا، ولم يكن هناك ردود فعل دولية واضحة على هذا المقترح، ولكن الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو مؤخراً، شهدت تجديداً للطرح الصيني رسمياً، حيث قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه سيناقش خطة نظيره الصيني المكونة من 12 بنداً لتسوية الأزمة "الحادة" في أوكرانيا، وقال بوتين "نحن منفتحون دائماً على عملية التفاوض".

السؤال الأكثر إلحاحاً بشأن خطة السلام الصينية هذه يتعلق بفرص نجاحها، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أمور عدة بطبيعة الحال موقف الطرفين الأكثر تماساً مع الأزمة وهما الولايات المتحدة وروسيا، حيث شككت واشنطن في المقترح الصيني بسرعة، وحذّرت على لسان وزير الخارجية انتوني بلينكن من أن تكون خطة السلام الصينية "تكتيكاً للمماطلة".
وقال بلينيكن "لا ينبغي أن ينخدع العالم بأي تحرك تكتيكي من جانب روسيا، بدعم من الصين أو أي دولة أخرى، لتجميد الحرب بشروطها".
وأضاف "الدعوة إلى وقف إطلاق النار التي لا تشمل إخراج القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية من شأنها أن تدعم بشكل فعال التصديق على الغزو الروسي".
أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لن تقبل بسهولة فكرة نجاح الصين في لعب دور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، حيث يأتي الطرح الصيني مباشرة بعد نجاح بكين في التوصل إلى إتفاق إيراني ـ سعودي لإستئناف العلاقات الثنائية وانهاء القطيعة والتوترات بين البلدين؛ حيث تنظر الولايات المتحدة إلى الجهود الصينية باعتبارها وسيلة لتعزيز مكانة البلاد ونفوذها الدولي، من خلال الاضطلاع بمسؤولية تسوية النزاعات وانهاء الصراعات ولعب أدوار الوساطة، إذ تدرك واشنطن أن الرئيس الصيني جين بينغ يمتلك طموحات وتطلعات دولية واسعة لدور بلاده في قيادة العالم، وترى أن النشاط المكثف للدبلوماسية الصينية منذ الخروج من أزمة "كوفيد" تعكس هذه التطلعات وتشير إليها بدرجة واضحة.
وبالإضافة إلى ماسبق فإن الولايات المتحدة لا تبدي في الآونة الأخيرة أي إستعداد لتسوية الأزمة الأوكرانية، بل الملاحظ أن الخطاب السياسي الأميركي يزداد حدة وتشدداً ولاسميا فيما يتعلق بالرئيس بوتين ذاته، حيث يتبنى الرئيس بايدن تجاهه خطاباً صارماً بلغ درجة الدعوة ضمناً إلى عدم بقائه في السلطة في روسيا.

ثمة نقطة أخرى بالغة الأهمية أيضاً تتعلق برؤية الولايات المتحدة للتعاون الصيني ـ الروسي، حيث تدور شكوك عميقة في حدود دعم بكين لموسكو، وستعزز الزيارة الأخيرة للرئيس بينغ هذه الشكوك بالتأكيد، ما يجعل فكرة القبول بوساطة صينية وكأنها ـ بالنسبة للغرب ـ إستسلام أو تسليم بالتحالف الصيني ـ الروسي، الذي تراه الكثير من الدوائر الغربية تحالف مناهض للقيم والمبادىء والنفوذ الغربي.
وقد أضاف إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة توقيف بحق الرئيس بوتين بزعم ارتكاب "جرائم حرب"، سبباً جديداً لغضب واشنطن المزعوم من زيارة الرئيس الصيني لموسكو، حيث اعتبر وزير الخارجية الأميركي بلينكن أن هذه الزيارة تشير إلى أن الصين "لا تشعر بأي مسؤولية تجاه محاسبة الكرملين".

على الجانب الآخر فإن روسيا تبدو منفتحة على المقترحات التي تنطلق من فرضيات سياسية مناسبة لها، وهذا ما يفسر التعاطي بانفتاح مع المقترح الصيني، بخلاف مقترحات من أطراف دولية أخرى مثل البرازيل وغيرها، حيث يلاحظ أن خطة الصين لم تنص بشكل صريح على وجوب إنسحاب روسيا من أوكرانيا، وهو الشرط الذي تتمسك به أوكرانيا والغرب كشرط مسبق لأي محادثات، وانطلقت الخطة الصينية من مبادىء عامة تحرص عليها الدبلوماسية الصينية مثل إحترام سيادة جميع الدول، فضلاً عن أن هذه الخطة تتضمن رفضاً للعقوبات الأحادية الجانب، وبالتالي فهي مرفوضة بشكلٍ مسبق من الولايات المتحدة التي ترى في هذه الخطة إنحياز لأحد طرفي الصراع، في الوقت الذي أشاد فيه الرئيس بوتين بالخطة التي "تراعي مبادىء العدالة" وتحثّ على "الأمن الشامل والمتكامل لأي دولة". ولكنه قال إنه لا يمكن المضي قدما في هذه الخطة إلا عندما يكون "الغرب وكييف" مستعدين لهذا،
وأضاف أن روسيا لم تشهد بعد مثل هذا "الإستعداد" من الجانب الآخر، وهو مايعني أنه يدرك مسبقاً محدودية فرص قبولها من العواصم الغربية وأوكرانيا.

التحليل الموضوعي يقول أن الصين من حقها لعب دور وساطة لإنهاء الأزمة الأوكرانية التي تؤثر في جميع إقتصادات دول العالم، ومنها الصين بطبيعة الحال، كما أن للصين مصلحة مؤكدة في إنهاء هذه الحرب من دون خسارة فادحة لروسيا، التي ينظر إليها كأحد أطراف التعددية القطبية المحتملة في المستقبل المنظور، فضلاً عن كونها أحد أهم موردي النفط والغاز للصين، عبر حدود مشتركة يفوق طولها الأربعة آلاف كم، حيث لا يمكن للغرب التأثير في هذه الإمدادات التي تصل مباشرة للصين، وجميعها أمور تعزز قناعة الصين بالسعي لإنهاء هذه الحرب، بغض النظر عن وجود أهداف إستراتيجية أخرى من عدمه.

بلاشك أن رفض الغرب المتسرع لأي جهد صيني في تسوية الأزمة الأوكرانية ينهي بشكل غير مدروس فرصة ثمينة ولا يعبر عن وجود رؤية سياسية حقيقية للبحث عن حلول، لأن جميع التحفظات على دور الصين وطرحها الخاص بالحل لا يمثل سبباً لرفض هذا الدور، الذي يعد في حقيقة الأمر جهداً دبلوماسياً لا غنى عنه بالنظر إلى تأثير الصين وعلاقتها القوية بروسيا وقدرتها على الإقناع والضغط على موسكو بحكم العلاقات الثنائية بين البلدين والقوية بين الرئيسين "الصديقين" كما وصفا بعضهما البعض.

صحيح أن خطة السلام الصينية أقرب إلى ان تكون مبادىء عامة ولا تتضمن التزامات ومسؤوليات لكل طرف أي أنها ليست خارطة طريق كاملة للحل، لكنها تبقى أساساً للنقاش كما قال الرئيس بوتين.
وصحيح كذلك أن الصين لا تريد أن تخسر روسيا الحرب كما يقول المحللون الغربيون، لأنها ترى في روسيا شريك مصير نحو بناء التعددية القطبية، فضلاً عن أنها تخشى عواقب هزيمة روسيا عسكرياً او حتى سياسياً، وتفرغ الولايات المتحدة بعد ذلك لمواجهة النفوذ الصيني المتنامي عالمياً، ولكن هذا كله ليس مبرراً لرفض قيامها بدور وساطة لا غنى عنه لإنهاء حرب يعاني بسببها العالم أجمع.