ابتليت منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات وعقود طويلة مضت بتفشي فيروس الميلشيات والجماعات الإرهابية والحركات الأيديولوجية التي يدعمها النظام الإيراني ويعتمد عليها في تحقيق أهدافه وتشكيل ملامح المنطقة وفق تصورات قادته المذهبيون والعسكريون، ولا نقول السياسيين، لأن النظام الثيوقراطي الإيراني يعتمد بشكل تام على مرجعية دينية ويمضي وفق رؤى طائفية لا علاقة لها بالسياسة وقواعدها التقليدية المعروفة.

قلنا منذ سنوات، ولم ينتبه أحدهم، أن الصمت على تنامي ظاهرة الميليشيات الطائفية الإرهابية المسلحة المرتبطة بإيران ستدفع المنطقة والعالم ثمنه غالياً، ولكن ماحدث أن العالم قد صمت حين أشعلت ميلشيا "الحوثي" الموالية لإيران في تدمير الدولة اليمنية ونشر الفوضى والانقسامات فيها، ولم يتحرك أحد حين ترعرعت الميلشيات الإيرانية في العراق، وامتلكت ترسانات الصواريخ التي باتت تهدد بها قواعد أقوى جيش في العالم (!)، وللأسف لم تحرك القوى الكبرى ساكناً أيضاً حين قصفت ميلشيات تابعة لإيران وبأسلحة إيرانية منشآت النفط السعودية والإماراتية، التي تعتمد عليها اقتصادات هذه الدول، واكتفت هذه القوى بالصمت خشية أن تنسحب إيران من مفاوضات البرنامج النووي، والتي كشفت عن مدى خضوع العواصم الكبرى لمخاتلات المفاوض الإيراني بزعم تحييد التهديد النووي الإيراني مع أن ابجديات التحليل السياسي تقول أن كل هذا الجهد لم يكن يستهدف سوى تأجيل الطموح الإيراني لترجمة قدراتها المعرفية النووية إلى "رأس حربي"!
نعم للأسف دول المنطقة العربية وإسرائيل يدفعون جميعاً ثمن التهاون الغربي في التصدي للتهديد الإيراني، وهذه هي الحقيقة، التي يراها الجميع الآن، حين تقع المنطقة بأكملها فريسة لسيناريوهات تهديد متصاعدة من جانب إيران ووكلائها بتوسيع نطاق الصراع الدائر في غزة وفتح جبهات قتال جديدة ضد إسرائيل بكل ما يعنيه ذلك من فوضى واضطرابات شاملة.
شخصياً لا أدرى لم تصورت واشنطن وباريس ولندن وبرلين أن إحياء "خطة العمل المشتركة" سينطوي على تغيير سلوك إيران العدائي في الشرق الأوسط، ولماذا تجاهلت هذه الأطراف، وبالأخص الولايات المتحدة، مصالحها الاستراتيجية الضخمة في المنطقة، وغاب عنها التقدير الاستراتيجي والإصغاء لحلفائها التاريخيين، واستمعت فقط لصوت يحذر من تنامي التحدي الصيني في شرق آسيا، مع أن الماضي والحاضر يثبتان أن الهيمنة والنفوذ والمكانة في النظام العالمي تبدأ وتنتهي وتحسم غالباً في منطقة الشرق الأوسط بكل ما تمتلك من موارد وموقع جيوستراتيجي وغير ذلك.
ما حدث أن استفحال قوة الميلشيات الموالية لإيران لدرجة باتت تستدعي استنفار الجيش الأمريكي نفسه يعكس قصور الفهم ومحدودية النظرة التي سيطرة على صانعي القرار الأمريكي طيلة الفترة الماضية، فلم تكن إيران تخفي تحركاتها وأهدافها، بل إن من قبيل المفارقة أن التحليل يقودنا أحياناً إلى الخدمات الجليلة التي قدمتها الولايات المتحدة للاستراتيجية الإيرانية سواء في العراق، أو في افغانستان وغيرهما، ولم ينتبه أحد إلى خطورة ما ذكره الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني في أكتوبر 2017 حينما قال في كلمة متلفزة إنه "لا يمكن في العراق وسوريا ولبنان وشمال إفريقيا والخليج القيام بأي خطوة مصيرية دون إيران"، وما قاله علي يونسي، مستشار روحاني، قبلها في مارس 2015، حينما أعلن أن إيران "أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليًا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا اليوم كما في الماضي".
من يتابع تصريحات قادة إيرانيين الحاليين، وكذلك قادة الحرس الثوري الإيراني يشتم رائحة النشوة العارمة والرغبة العميقة في ممارسة الوصاية على دول المنطقة، فلا يكف هؤلاء عن التهديد بإشعال المنطقة بأكملها والزج بها في حرب واسعة، ولا يكف هؤلاء عن الاستخفاف بمصائر شعوب المنطقة والدفع باتجاه تصعيد الصراع في غة ليشمل دولاً ومناطق أخرى.
مشروع إيران الإقليمي ليس سراً وفي أدراج مسؤولي وقادة الدول الكبرى الكثير عن تفاصيل هذا المشروع، ولكن ضعف الخيال السياسي وعدم القدرة على بناء تقديرات دقيقة للتطورات المحتملة في منطقتنا، وضع الجميع أمام ما يحدث في غزة، فلا إسرائيل توقعت سيناريو هجوم "حماس"، ولا الولايات المتحدة تخيلت أن يبلغ التحدي الإيراني هذا المدى ويضعها في موقف بالغ الحرج ، وفي وقت تواجه فيه الإدارة الأمريكية، تحديين استراتيجيين كبيرين هما أوكرانيا والنفوذ الصيني، وكأن البيان التأسيسي لحزب الله اللبناني والصادر منذ سنوات طويلة قد غاب عن الجميع، وهو الذي ينص على "إنّنا أبناء أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران"، وأعلن قائده حسن نصر الله صراحة في كلمته خلال إحياء ذكرى عاشوراء في عام 2015 بأن "حزبه هو حزب ولاية الفقيه المرتبط مباشرة بإيران".