بعد غزة، وعلى خط بياني، تسير الأمور بشكل تصاعدي ومتسارع للحد فوق الأعلى. لقد تم تحديد الأهداف بالنسبة للتحالف المتمترس على شواطئ فلسطين، وعينه تتجاوز غزة. فالرأس الوظيفي القابع في قُم تم تحديده؛ واستهدافه مسألة وقت؛ والبداية من الأذرع. لقد تبيّن أنه ممنوعٌ حدوث هذا التراكم الهش من الضعف الاستراتيجي، أو ترك المساحة مفتوحة بهذا الشكل للمنظومة التخادمية الوظيفية.

كان المثال الصغير الصارخ بإيحائه استقبال الرئيس السوري بشار الاسد في المملكة العربية السعودية بهذه الطريقة، وخروج الكثيرين أثناء إلقاء كلمته يعكس معرفة الجميع بدرجة الهشاشة التي وصل إليها الأسد، أكان داخلياً، أم على المستوى الإقليمي والدولي.

من جانب آخر، قامت مظاهرات مساندة لغزة في كل مكان إلا حيث تتواجد منظومة الأسد. والأكثر بالإيحاء هو عدم خروج موقف رسمي من "سلطته" باستثناء المقولات والمسلّمات الفلسفية المنسوخة التي تفوّه بها بضرورة المحاسبة على ما يحدث في غزة، ناسياً ومعتقداً أن الآخرين غافلون عمّا فعل.

ها هو نظام الأسد يجد نفسه عارياً و مُجبَراً على لعب دوره "المكيافلي"، لأن الاختباء وراء الأذرع انتهى- وخاصة الذراع السني- فها هي غزة تستغيث، مرغمة لترك آخر شغاف الروح، للأسف الشديد. لقد أخذت حماس خياراً مذهلاً خَرَقَ وأذلَّ أعزَّ ما عند الكيان، جاعلةً خسارته غير مسبوقة، معتقدةً أن حجم خسارة الكيان ستجبره على الجلوس إلى الطاولة مرغماً يدعو المهاجمين ومَن خلفهم ومعهم لبازار تقاص كبير تستفيد منه.

ما لم يُحسَب حسابه ربما هو قبول الاسرائيليين للخسائر، وابداء استعداد لتقبُّل ما هو أكبر من ذلك، مقابل الحصاد القادم المتمثل بانهاء حماس؛ وهذا تحديداً ما فاجأ حماس ومحورها. لم يكن لدى حماس غير العملية التي تمت، وردات الفعل على ما ستفعله إسرائيل الآن. ليس هناك الآن الاّ علو الصيحات، وتوقف سبل الحياة بكليتها؛ فالهجرة اليهودية العكسية المأمولة توقفت، بينما ملايين غزة هي التي تهاجر. لقد أصبحت إسرائيل داخل القطاع، والمجتمع الدولي مهيأ، ولن يتمكن من التدخل بأي مشروع سياسي او أمني يخص إسرائيل، إلا كما تريد إسرائيل وأمريكا.

وفي الجانب التخادمي، سيُوضع للمسؤول المباشر عن الأذرع الوظيفية الكثير من الخطوط الحمراء. وكان من الممكن للذراع الأسدي أن يتماهى وظيفياً، ولكن ذلك كان ممكنا قبل 2011؛ فبحدث غزة، وبعد 13 عاماً من الارتكابات، توقَّع لفعل غزة أن يفتح له سِلَّمَ التقاص، بغية احداث انفراج، كرفع او تخفيف العقوبات، أو إطلاق يده بمعالجة الوضع في السويداء،أو عودة شرعية كاملة مع تدفقات مالية؛ حيث حاول في الخليج وفي الصين بعد الغرق الروسي، ولكن عبثاً.

اعتَقَدَ أن حماس ربما تفتح له خطأً بهذا الاتجاه، لكنه - كما الآخرين - فوجىء بكم العنف الذي استخدمته حماس،وبقدرة الاسرائيليين على تحمل الصدمة واستيعابها. ربما بدأ الآن يفهم أن الحصاد سيكون بصالح إسرائيل بالمطلق. والأكثر، ربما بدأ يحس بأن الأمر سيمتد من الاذرع الى الراس؛ فالمنظومة التخادمية المتمثلة بإيران والنظام وحزب الله والحوثي رأسين وذراعين. الذراعان في اليمن ولبنان مؤدلجة، لكن الرأسين في دمشق وطهران "مكيافليان"، وظفا الادلجة لمصالح سلطة. بعد غزة تلاشى ذراع سني ضاع في تقاطعات المشهد وحسابات أطرافه؛ وهامش لعبة التقاص تقلّص، و تمَّتحديد الرأسين كطرفٍ مسؤولٍ مباشرةً.

ولو كان الوضع غير ذلك، لما كان لدى نظام الأسد مشكلة بانتهاء حماس او فلسطين؛ لكنه مهلهل، ويتعايش مع وضع الجولان، وقصف اسرائيلي يومي. ربما اعتقد انه يمكن ان يستثمر بدم حماس، كي يُفتح له تقاصّاً تفاوضياً عليها عبر الطرف الإيراني، الاقوى في المعادلة، معتبراً نفسه مستفيدًا كتحصيل حاصل؛ كأن تجري المفاوضات مع إيران وهو يستفيد؛ إلا أن الصورة قُلِبَت بالكامل، وخاصة أنه أساساً بحالة اختناق من العقوبات، والضغط الاقتصادي والسياسي؛ومن ملفاته الجرمية التي قد تتحرك في أي لحظة.

باختصار، الوضع بالنسبة لنظام الأسد مربكٌ جداً وكارثي، فهو بلا أذرع للعبة التقاص بالمنطقة، فلا مسرحية استهداف جنوده من داعش تفيده، ولا حادث الخرق في سعسع ينفعه؛ إنه ببساطة غير قابل للاستهلاك، حتى ولو مدّ يده من تحت الطاولة لطرح سلام مفتوح، ودون مقابل مع إسرائيل.

لقد اتى درس حماس ليكثّف الوعي ويسرّع به عند الإسرائيليين. ها هي لعبة "الجهادية السنية"، التي ابتدعها الملالي، تصل إلى نهايتها؛ والحصاد الذي تنتظره إسرائيل يخيف المحور الوظيفي التخادمي "المقاومة والممانعة" سابقاً. فحتى لو كانت حماس ذاتها قد اتخذت قرارها منفردة، وكان دور إيران والأسد الاستفادة بركب الموجة، والاستفادة من هذا التقاص؛ إلا أن أوراقهم مكشوفة تماماً، ومحصلة نتاجهما صفرية بامتياز. وبخصوص شريكه "حزب الله"، لنتمعن فقط بالتصريح الإسرائيلي التالي: "لن تعود جبهة الشمال مع لبنان كما كانت". إن استطالة الحال في غزة يضاعف احتمال مساس الشرارة بالصاعق. الواضح أن غزة ستأخذ بطريقها الكثير.