تشير الشواهد جميعها إلى أن القادم أصعب في الشرق الأوسط، بغض النظر عما ستؤول إليه الحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل وحركة "حماس" الإرهابية. والمعضلة هنا لا تتعلق بمصير الحركة التي فجّرت هذا الصراع بشن الهجوم الإرهابي الدامي ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ولكنها تتصل بمصير نحو مليوني فلسطيني في غزة، حيث لم يعد من المطروح عودة هؤلاء إلى ديارهم التي دمر معظمها، كما أنَّ إسرائيل نفسها لا تفكر في إعادتهم بعد انتهاء القتال مباشرة، بل تخطط لإعادة رسم مستقبل القطاع بشكل جذري.
الأمر لا يقتصر على الأزمة المتوقعة في القطاع، بل تطال أبعاداً وقضايا أخرى، أهمها برأيي موقف إسرائيل تجاه "حزب الله" اللبناني، الذي يواصل قصف أهداف إسرائيلية بدعوى تخفيف الضغط عن حركة "حماس" الإرهابية، حيث لوح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتحويل جنوب لبنان بل وبيروت إلى غزة أخرى، في إشارة إلى الدمار الحاصل في القطاع، وخرجت تقارير إسرائيلية تتحدث عن خطط تستهدف إزاحة ميلشيا "حزب الله" من مواقعها الحالية إلى ما وراء نهر الليطاني على بعد 40 كم من الحدود الإسرائيلية، أي أن هناك جولة عسكرية مرتقبة على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، حيث يتوقع البعض أن تستغل إسرائيل الأجواء الراهنة في استكمال خطط حماية أمنها ضد تهديد الميلشيات سواء في غزة أو على الحدود اللبنانية، لا سيما في ظل التواجد العسكري البحري الكثيف للجيوش الأمريكية والأوروبية على سواحل البحر المتوسط، والذي يوفر لإسرائيل ظروفاً ضاغطة تمنع تدخل إيران بشكل مباشر في أي مواجهة بين إسرائيل وأحد أهم أذرعها العسكرية في الشرق الأوسط (حزب الله).
برأيي، فإن خيارات "حزب الله" خلال الفترة القليلة المقبلة تتوقف بشكل كبير على مسارات الحرب الدائرة في غزة، بمعنى أن حسم الصراع عسكرياً بشكل واضح لمصلحة إسرائيل، سيكون له تأثير كبير على موقف ميلشيات نصرالله من مواصلة تسخين الجبهة الشمالية لإسرائيل، أو التراجع التكتيكي بشكل يحفظ ماء وجه الحزب أمام مناصريه خشية تدمير قدراته العسكرية.
من الوارد أن تخطط إسرائيل لمواجهة التهديد القادم من "حزب الله" وقد تفكر في استدراج إيران لصراع إقليمي واسع تحاول طهران أن تتفاداه بكل الطرق، ولكن استراتيجية الحرب بالوكالة التي تخوضها إيران ضد إسرائيل والولايات المتحدة، ستبقى مصدر تهديد حقيقي للبلدين، لذا من الصعب للغاية أن يمنح البيت الأبيض ضوءاً أخضر للحليف الإسرائيلي لتوجيه ضربة عسكرية مباشرة ضد إيران، حيث يمكن أن يفتح هذا السيناريو أبواب احتمالات لا نهاية لها.
في كل الأحوال، فإنَّ الشرق الأوسط بات على أبواب تغيرات جيواستراتيجية كبيرة. أزمة غزة لم تنته ولن تنته قريباً، والأمر ليس مرهوناً بالصراع العسكري، بل بما بعد الحرب، ومصير سكان القطاع، وكيف يمكن التعامل مع الوضع المؤقت الضروري لإعادة تعمير المدن المدمرة، وخطط إيواء مليوني نازح، وتمويل إعادة الإعمار، ناهيك عن المخطط الزمني لإنتهاء إسرائيل من تدمير الأنفاق وتطهير القطاع من السلاح، وهي مسائل يتوقع أن تستغرق كثيراً من الوقت قبل التفكير في كيفية إدارة القطاع والمسؤولية السياسية والأمنية عنه. والأمر أيضاً لا يقف عند هذا الحد، فهناك موقف الميلشيات الموالية لإيران في بقية دول الشرق الأوسط، إذ يتوقع ألا تتوقف هذه الميلشيات عن إثارة الأزمات والسعي نحو فتح جبهات صراعية أخرى، فضلاً عن تأثير ما حدث على الساحات السياسية في الدول الغربية، حيث يتوقع أن يكون لأزمة غزة تأثيرات عميقة على الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، وكذلك في دول أوروبية عدة، فضلاً عن مجمل تأثيرها على التفاعلات الدولية في ظل العجز والإخفاق الكبيرين للمنظمات والمؤسسات الدولية في التعامل مع الأزمة على المستويات السياسية والإنسانية معاً.
إسرائيل أيضاً لن تعود كما كانت قبل السابع من أكتوبر، ولن تعود في المستقبل المنظور إلى ماكانت عليه، سياسياً وأمنياً، فهناك تداعيات داخلية لم يتم الكشف عنها بعد، وهناك تحقيقات موسعة ستجرى لتحديد المسؤوليات، ولن يهدأ للإسرائيليين بال حتى يتأكدوا تماماً من التحقيق في ما حدث واستعادة الأمن الداخلي، لا سيما على الحدود الجنوبية والشمالية، بشكل موثوق، فضلاً عن حتمية مساءلة الساسة والقادة الذين قادوا البلاد خلال السابع من أكتوبر، فإسرائيل بالأخير دولة ديمقراطية تمتلك قاعدة مؤسسية قوية، ولديها القدرة على المكاشفة والمساءلة والأخذ بكل الاحتياطات الضامنة لحاضرها ومستقبلها، لذا، يمكن توقع تغييرات جذرية في السياسات وربما التحالفات الدولية بناء على ما حدث وما يتوقع حدوثه وما يحول دون تكراره.
من شبه المؤكد أيضاً أن تتأثر علاقات إسرائيل ببعض جيرانها العرب، وأن تسود أزمة ثقة يتوقف منسوبها وتداعياتها على مسارات أزمة غزة وكيفية التعاطي معها خلال الفترة المقبلة وسيناريو نهايتها، وإذا كانت بعض التحليلات ترى أن اتفاقات السلام بين إسرائيل وجيرانها مهددة بالزوال، فإننا لا نميل إلى هذا الطرح، بل يمكن القول إنَّ هذه الاتفاقات قد تجاوزت فعلياً المرحلة الأصعب في الأزمة الراهنة، وإن كان من الوارد أن تشهد جموداً أو تجميداً، بنسب ودرجات متفاوتة بناء على موقف وسياسات كل دولة عربية على حدة، ولكن الواقع الآن يقول إنه لا يزال هناك ما يمكن العودة إليه والبناء عليه، شريطة أن يدرك طرفا اتفاقات السلام، العرب وإسرائيل معاً، أنَّ مصالحهما المشتركة تكمن في بناء التعايش وعدم السقوط في فخ يُنصب للجميع من دون استثناء.
التعليقات