يحمل ما تفضل به رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي مؤخراً بشأن رفض تشكيل أقاليم أخرى (غير إقليم كردستان) في طياته مؤشرات غاية في الخطورة والحساسية، وإن كان يحتوي على حقائق ووقائع منطقية مسلم بها، فهو يضرب بالدستور العراقي ككل عرض الحائط، وليس جزءاً أو مادة أو فقرة منه فقط. فالاتحاد الاختياري، وحق تشكيل الأقاليم، متجذر في هذا الدستور بدءاً من فلسفته ورؤيته مروراً بديباجته ومواده وفقراته وصولاً إلى محصلته النهائية كنص مصادق عليه نال رضى واستحسان غالبية الشعب ويمثل "أم القوانين"، وهو متأصل ومحتكِم ويشكل الأساس الذي بنيت عليه الدولة العراقية الجديدة.
وبعيداً عن الحديث عن مدى قوة وجدية الأصوات التي ارتفعت ونادت بتشكيل أقاليم على غرار إقليم كردستان بعد عام 2005 في البصرة جنوباً والأنبار غرباً مستندة إلى المادة 119 التي تنص على حق كل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقيتين هما طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، أو طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم، وكذلك بعيداً عن منطلق ودوافع تلك الدعوات أسياسية كانت أو غير سياسية، فإنَّ مجرد إلقاء نظرة سريعة على هذا الدستور يوضح لنا:
التأكيد على الاتحاد الاختياري كأساس للدولة.
تكرار مصطلح "الاتحادية" في 42 موضعاً ومادة وفقرة.
تكرار مصطلح "الإقليم" في 12 موضعاً ومادة وفقرة.
تكرار مصطلح "الأقاليم" في 31 موضعاً منها 17 مادة مختلفة.
وتظهر هذه الأرقام البسيطة مدى تغلغل فكرة الاتحاد الاختياري وحق تشكيل الأقاليم في قيام الدولة العراقية الجديدة، وهي الفكرة الملهمة لوضع مضمون الدستور ومواده وفقراته بحيث أصبحت هذه الأفكار وبنية الدستور كلاً متكاملاً غير قابل للتجزئة، فقلما تجد مادة ضمن مواده البالغ عددها 144 لا تتطرق بالحديث عن الأقاليم أو ما يتعلق بها.
إقرأ أيضاً: الصحافة الكوردية حبيسة قوقعتها
أما ما صدر عن السيد رئيس مجلس القضاء فهو لا يمت بصلة إلى روح هذا الدستور الذي لم يمض على كتابته سوى عقدين من الزمن أو لأساسه الفلسفي القائم على أنَّ العراق دولة اتحادية، بل وينافيه تماماً، وما يبعث على القلق والتخوف أنَّ الكلام صادر عن صاحب أحد المناصب العليا في البلاد، بغض النظر عن كونه بياناً صحفياً أو جاء رداً على أصوات هددت باللجوء إلى تشكيل إقليم جديد في محافظة الأنبار.
إنَّ فحوى هذه التصريحات يوصل رسائل غير مطمئنة للمكونات العراقية شيعة وسنة وكرداً أيضاً، فهي تناقض كلياً المبادئ المشكِلة للعراق الجديد وتنذر بالانقلاب عليها في أية لحظة.
إقرأ أيضاً: كردستان تواجه أسوأ مراحلها والآت أصعب
وإن كان رئيس مجلس القضاء قد اعترف بأنَّ واقع إقليم كردستان الجغرافي والقومي موجود قبل نفاذ دستور جمهورية العراق سنة 2005، وتحديداً سنة 1991 إثر غزو الكويت وما نتج عنه من آثار سلبية بسبب السياسات الفاشلة للنظام السابق، وأنَّ إقليم كردستان له وضع خاص معترف به من جميع أبناء الشعب العراقي، إلا أنَّ كلامه عن أنَّ ظروف صياغة الدستور في حينه قد تغيرت الآن وأنَّ معظم من كانت لديه القناعة بالأحكام الخاصة بتنظيم الأقاليم مقتنع الآن بضرورة تغييرها قدر تعلق الأمر ببقية المحافظات عدا إقليم كردستان بحكم وضعه الخاص، فيه دلالات عميقة عن نوايا جدية لإحداث تعديلات مستقبلية جوهرية على الدستور (إن لم يكن تغييراً كلياً) تقودها القوى السياسية التي تتفق أفكارها مع ما صرح به رئيس مجلس القضاء.
إقرأ أيضاً: كركوك لم تعد "برميل بارود"
إنَّ قراءة معمقة لهذه التصريحات تبين أن هناك تراجعاً صريحاً عن الإيمان والتمسك بمضمون الدستور النافذ والحرص عليه، وأن هناك رغبة جامحة تلوح في الأفق لتغييره بأي طريقة، ولكن هذه الرغبة لا تمس مواد أو فقرات محددة بعينها فحسب، وإنما تتصادم مع الدستور ككل، الأمر الذي يولد خوفاً ورهبة من أن تصل إلى درجة الدعوة إلى التوجه لإلغاء الدستور وكتابة غيره.
التعليقات