لم يعد إقليم كردستان قويا كما كان في السابق، لا من حيث المكانة السياسية، ولا من حيث القوة الاقتصادية التي كان يتمتع بها قبل عقد من الزمن، فلا سياسية الاقتصاد المستقل أثمرت عن شيء، ولا سياسية الضغط والتلويح باستفتاء الاستقلال أجدت نفعا، فالنفط الذي كان يستند إليه في مناكفاته لم يعد في متناوله بقرار قضائي ملزم، وبرلمانه الذي كان أساس مفاخرته بالتجربة ورمز سيادته السياسية أصبح خارج العمل بقرار قضائي أيضا، تلا ذلك إلغاء عمل مجالس محافظاته، فيما تعمل حكومته مسيّرة للأعمال فقط بعد انتهاء ولايتها منذ أشهر عديدة.

تراجع متدرج وملموس هو حال الوضع الكوردي في العراق الاتحادي ليس في هذه المرحلة فحسب بل منذ سنوات مضت، فرياح العملية السياسية لم تأت أخيرا بما تشتهيه سفن الأطراف الكردية وقضيتهم، لا للداخل ضمن التحالف الثلاثي مع التيار الصدري والسنة، ولا للباق في التحالف مع الشيعة، ولا للذي يسعى وراء ما سماه بالاستقلالية والتحالف مع المستقلين والتشرينيين قبل أن ينفك عنهم، ولا للذي بقى حائرا دون أن يلوذ بجهة.

مسلسل التراجع بدأ قبل ستة أعوام في 2017 بالتداعيات التي ترتبت على الإقدام على إجراء الاستفتاء على الاستقلال سياسيا، واقتصاديا، وأمنيا، وعسكريا، تلته أحداث أكتوبر وخسارة مناطق شاسعة في غضون ساعات، واستمر التراجع بفقدان ملف النفط وعودة حق التصرف فيه إلى عهدة الحكومة في بغداد بقرار من القضاء العراقي مؤيدا بقرار دولي من محكمة باريس، ثم جاءت قرارات قضائية عراقية أخرى لتلغي عمل برلمان كردستان في دورته الخامسة بعد انتهاء مدته القانونية دون اجراء انتخابات، أُلغي بعده عمل مجالس المحافظات في الإقليم بحجة انتهاء مدتها القانونية وعدم اجراء انتخابات لمجالس المحافظات فيه. وفيما يبدو أن الأطراف السياسية العراقية قد وجدت ظالتها واقتنصت الفرصة السانحة في محاربة الكرد وأهدافهم عبر القضاء العراقي يساعدهم في ذلك التباعد الملحوظ والبون الشاسع بين الكرد أنفسهم في أغلب القضايا، فخلافاتهم أفقدتهم قوتهم.

أما على مستوى الوضع الداخلي فحدث ولا حرج، إذ لا زالت الثقة بين الأطراف السياسية مفقودة بل منعدمة تماما، فالكل يغني على ليلاه، والمصلحة الكردية العليا غائبة كليا من أجندات الأحزاب ومواقفها، والتشرذم والتشتت هو سيد الموقف، فيما أخذ التباعد والتقاطع محل وحدة الصف والتضامن، فرأينا مشاركة كردية منقسمة في الاستعداد لانتخابات مجالس المحافظات لا ترقى إلى مكانتهم المرموقة في العراق الجديد إذ يسود علاقاتهم الخلاف وعدم الاتفاق بعدما كانوا يُعرفون بالمتحدين وأصحاب الكلمة الواحدة، كما يندر الاتفاق بين ممثليهم في الكتل الكردية على أمور غاية في البساطة في مجلس النواب ناهيك عن القضيا المصيرية أو التي تمس حياة المواطن الكردي ومستقبله.

الوضع الإقليمي ليس أفضل حالا، فالتهديدات والقصف اليومي على مدن وقرى الإقليم يتكرر وكأن لا وجود لأحد يدافع عن الإقليم وشعب كردستان فيما يُستغل الوضع لمزايدات سياسية لا تغني ولا تثمن من جوع، والحكومة الكردية واقفة موقف المتفرج الذي لا حول له ولا قوة دون أن تنبس ببنت شفة ما يوحي بموافقتها الضمنية على الأمر.

فوق كل ذلك يعاني الكرد الآن من الافتقار إلى وحدة القرار والاتفاق حتى في الأمور اليومية العادية، خصوصا بين القوى المشكلة للحكومة، إذ لم يبق الاتزام حتى بالاتفاقات الموقعة بينها مسبقا، أضف إلى ذلك الاختلاف الواضح في التعامل مع القضيا الكردية الداخلية والعراقية والمستجدات اليومية أيضا، وتطغى لا مبالاة مقصودة على الاستجابة للمطالبات والدعوات الجماهيرية سواء لتأمين الرواتب المتأخرة أو الخدمات المتردية بشكل عام، فالموظف لم يتسلم راتبه منذ ثلاثة أشهر والحكومة تتصرف وكأن شيئا لم يكن، وتكاد المؤسسات الخدمية كالمدارس والمستشفيات والدوائر المعنية بحياة المواطنين تصاب بالشلل التام جراء مقاطعة فئات المعلمين والكوادر الصحية والموظفين لأعمالهم، كما تشهد الأسواق انخفاضا ملحوظا في التعاملات والتبادلات التجارية يصحبها غلاء في أسعار المستلزمات اليومية والمحروقات بسبب أزمة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي.

قد يبعث الاتفاق الترقيعي بين بغداد وأربيل على إرسال 700 مليار دينار شهري لثلاثة أشهر بارقة أمل للمواطن الكردي، ولكنه لن يُسعف الوضع المتردي للإقليم في نهاية الأمر، ولا يُمكنه أن يُخفي قتامة الوضع وسوئه، فالآت أصعب وأكثر تحديا للمواطن والقوى السياسية والسلطة في كردستان معا، فهم مقبلون على استحقاقين انتخابيين في شهر كانون الأول لاختيار مجالس المحافظات وفي شهر شباط القادم لاختيار أعضاء برلمان كردستان، وفي ظل افتقار الإقليم لسلطة تشريعية وحكومات محلية في المحافظات وموازنة مضمونة ومؤسسات عاملة وفاعلة واحتقان داخلي، فإن تجاوز التحديات سيكون أمرا أصعب إن لم يكن مستحيلا.