عندما قرر الإقليم التوجه الى تصدير النفط وبيعه بمعزل عن النافذة القانونية المتمثلة بشركة "سومو" دخلت العلاقات الثنائية في حالة من التوتر والصراع، وفشلت على اثرها جولات عدة من المفاوضات في رأب صدعها. بدأت التوترات من هذا النوع في العام 2013 وترسخت بقوةِ جذورها السياسية والدستورية الضاربة في أعماق العملية السياسية.

إقليم بلا دستور
نحنُ في إقليم كردستان فشلنا بعد ثلاثة عقود ونيف من توطيد أركان سلطتنا عن طريق دعمها وشرعنَتها بدعامة الدستور، الدستور الذي أكلت الغبار مسودته المركونة على الرفوف والتي منعته الارادات السياسية المتضادة من أن يرى النور في لحظة فارقة كانت من شأنها أن تذهب بنا الى مستقبل أفضل مما وصلنا اليه اليوم بمراحل.
واليوم يُعد الغياب هذا والفراغ الذي أحدثه أهم إشكال يعيق اعادة عجلة الالتئام والتطور إلى الدوران.

أثبتت الأيام بأن غياب الدستور في اقليم كردستان قد أفقد القوى السياسية الكردية بوصلتها كما أنه قد أوقعها في مغبات كبيرة لعل أخطرها هي مغبة الانفراد بادارة ملف الموارد الطبيعية بعيداً عن رقابة المركز واشرافه فضلاً عن كونه كان دافعاً كبيراً شجع هذه القوى على ارتكاب أكبر خطأ استراتيجي في يوم 25 من أيلول 2017 حيث لحظة الاستفتاء غير المدروسة؛ خطأين أُرتكبا في ظل عدم أخذ الحدود التي يضعها الدستور بعين الاعتبار. ما نواجهها اليوم من مخاطر وتحديات تحدق بالإقليم وتجربته هي عبارة عن ثمن ندفعه مقابل عدم اعتمادنا المسار الدستوري في الإقليم وسحراً تقلبه المحكمة الاتحادية علينا كل يوم بقوة مطرقتها التي تبدو وأنها تتحرك حسب أهواء أصحاب الإرادات السياسية.

العراق: بلاد بسيادة مستباحة
الدولة بطبيعتها تستقر على أركان أربَعة وهي التراب "أي الأرض" من ثم الشعب الذي يعيش عليها ليأتي الركن الثالث "السلطة" ويتولى شؤون هذا الشعب، ولكن تأبى الأركان الثلاثة هذه الاكتمال والتماسك إلا بانضمام الركن الرابع لها والذي هو ركن "السيادة" هذا ما يقر عليه علماء السياسة وأساطينُها عبر مختلف المدارس والنظريات. احدى كبار العلل التي تعاني منها الدولة العراقية الحديثة (2003-….) هي علة يسميها كاتب السطور هذه بعلة "السيادة الجوفاء أو السيادة الشكلية". عملياً ومنذ إنسحاب آخر جندي أميركي في العام 2011 إنتهت فترة الاحتلال الأميركي ليولج العراق سريعاً الى أتون الانتدابات الاقليمية التي يرزح وبشدة تحت وطأته منذ لحظة البداية! انتداب متعدد الأوجه رسخ أركانه عن طريق مصادرته القرار السياسي والأمني والاقتصادي للبلد وسط صمت أو تكَيُّف مارستهما الساسة العراقيون على التناوب وكل وفق ميوله غير الوطنية. من هنا تحول العراق الى ساحة مترامية الأطراف ومفتوحة الأبواب لعمليات تصفية الحساب بين هذه الدولة وتلك؛ عمليات غيَّبت السيادة العراقية وأفرغتها من جوهرها مع سبق الاصرار والترصد.

أزمة متواصلة تولد أزمات وأزمات
أزمة غياب الدستور في الإقليم مترافقة مع أزمة غياب السيادة العراقية هيأت الأجواء والارضية لإضفاء طوابِع غير طبيعية على الخلافات لتَتسبب هذه الخلافات فيما بعد بخلق شروخ عميقة تنسل منها أيادٍ خارجية عبثت ولا تزال تعبث بالاستقرار السياسي والاقتصادي للبلد كما أنها قد فتحت أبواباً لإنشاء علاقات غير صحية تربط جهات داخلية بأطراف إقليمية وأخرى دولية. والمحصلة الطبيعية والمتوقعة لكل ما ذُكر هي ذهاب التنمية الاقتصادية والسياسية في البلاد ضحية لهذه التأثيرات؛ أي ضحية ترحيل عملية الاستشفاء الداخلي التي تتطلب استرداد مفاتيح الحل التي وضعت في يد مسؤولين من عواصم أخرى صادروا وسط تراخٍ عراقي إرادة ممثلينا!

نعم، يبدأ العلاج والاستشفاء عند لحظة تشخيص العلة؛ والتشخيص الأهم هنا هو الإقرار على تعامل الإقليم غير المسؤول مع المركز في أخطر الملفات وأكثرها حساسية محاولاً بذلك استغفاله وكأن المركز نائم في عسل وبالتالي يمكن مرور تغييب الحقائق عليه بسهولة؛ لينتفض المركز بدوره أيضاً معتمداً اسلوباً قهرياً لا يليق بالعنوان الأبوي الذي يحمله ألا وهو أسلوب استخدام حصة المواطنين في الاقليم ورواتبهم مادة للمساومة "أي تسييسها المتعمد" ليجبر بها الإقليم على الرضوخ؛ سلوك يقلق وبقوة الثقة التي لدى المواطن الكردستاني بمركز دولته كما إنه يهز التقدير الذي يكنه لها!