لم تخلُ الانتخابات الأخيرة التي أجريت في الثامن عشر من الشهر الجاري في كركوك من عبر ودروس للمكونات كما للأحزاب والمواطنين، فقد بددت المخاوف حول خوض هذه التجربة وبرهنت على تعطش أهلها وتلهفهم للمشاركة، حيث سجلت نسبة من بين أعلى النسب في الإقبال على العملية (66 بالمئة) مقارنة بباقي المحافظات، فيما أعادت العملية إلى أذهان الجميع أهمية الاقتراع كأحد أهم أركان الديمقراطية والمشاركة في الحكم، وأظهرت حجم ومكانة التحالفات والكيانات، معيدة التأكيد على حقيقة راسخة وهي الخصوصية التي تتمتع بها المحافظة عن شقيقاتها الأخريات، وبيّنت ضرورة نبذ رغبة التفرد والابتعاد عن مبدأ معاداة الآخرين والاستهانة بهم، بل تحويلهم إلى عنصر دعم إضافي وامتصاص حنقهم وامتعاضهم بإشراكهم في إدارة المؤسسات المختلفة في المحافظة.
ومهما كانت النتيجة، وبغض النظر عمن أحرز مقاعد كثيرة ومن جاء في المراتب المتأخرة ومن لم يتمكن من إحراز أصوات كافية للدخول إلى مجلس المحافظة، إلا أنَّ التجربة أثبتت أنَّه من غير الممكن حكم المحافظة من دون تظافر جهود ومشاركة جميع المكونات وأحزابها السياسية، إذ تختلف المعادلة تماماً في هذه المحافظة ذات القوميات المتعددة عن بقية المحافظات، وتكاد تكون فريدة من نوعها.
إنَّ مجرد إجراء الانتخابات في كركوك يعد نصراً ومكسباً كبيراً في حد ذاته، ليس لطرف معين، وإنما للأطراف جميعاً، فها هي المحافظة تعود إلى صف المسير الديمقراطي بعد حرمانها منه طوال ثمانية عشر عاماً الماضية بداعي خصوصية وضعها. ضف إلى ذلك لم يكن القيام بالعملية وخوض التجربة بالصعوبة التي رُوج لها في وسائل الإعلام والأوساط السياسية من قبل المتخوفين منها من دون دراية أو من افتعلوا الخوف عن قصد لتفادي الخوض فيها، فالعملية جرت في أحسن صورة ودون أية إشكالات بل اتسمت بالسلاسة والانسيابية العالية، ولم تسجل حوادث عنف أو تعكير الأجواء، عدا بعض المشكلات والعراقيل الفنية، الأمر الذي يعني أن الإدعاء القائل إنَّ كركوك هي بمثابة "برميل بارود" جاهز للانفجار لم يعد في محله، وأصبح غير معبر عن وضع المحافظة، فقد أيقن الجميع أن الوسيلة الوحيدة لنيل المستحقات والمشاركة في الحكم تمر عبر بوابة العملية الديمقراطية والإسهام في الحفاظ على الأمن والأمان والتعايش بين المكونات.
نتائج التصويت في المحافظة تبين أنَّ لكل مكون كردي أو عربي أو تركماني أو مسيحي ثقله وحجمه، فلا سبيل إلى تهميش أحد وليس بمقدور أحد المكونات أن يتفرد بإدارته، وعلى الجميع الإسهام كل من جهته ووفق حجمه في تشكيل الحكومة المحلية والعمل مع الآخرين بروح الفريق الواحد والحفاظ على روح التعايش التي أبقت المحافظة في سلم ووئام بعيداً عن التشنجات والنعرات على مدار العقدين الماضيين، وهو المبدأ الذي أسس له الرئيس الراحل جلال طالباني بعدّه كركوك عراقاً مصغراً ومكوناتها شدة الورد مبدأ ما زال المفضل لدى معظم المكونات حتى الآن.
التعليقات