كان لي صاحب حميم، يعرفني وأعرفه، ويلازمني وألازمه، ويكاشفني وأكاشفه، وكان كهلاً في مثل سني قد غادره شبابه، ومضى في الأربعين مولياً لا يلوي على شيء، فكان رجلاً وسطاً فى عمره، وكذلك كان في سائر أمره، أو كان (نُصّ نُصّ) على قول المصريين إذا أرادوا وصف شيء (بين بين)، فهو منذ كان في دراسته ودرجاته تبطئ به عن فصول المتفوقين وكلياتهم، وتعلو به فوق درجات الضعفاء وأقسامهم، وتجعله فى منزلة بين الفريقين، فلما تخرج من كليته كان تقديره (نُصّ نُصّ)، فلم يكن بالتقدير الممتاز فيُصْطَفى معيداً بالجامعة، ولا كان دون الجيد فينحى عن الوظائف، بل عمل فى وظيفة عامة وسط، لا هي بالعليا المطموح إليها، ولا هي بالدنيا المرغوب عنها، فكانت وظيفة (نُصّ نُصّ)، وكان أجره منها كذلك (نُصّ نُصّ)، يحول بين صاحبنا وبين الغنى، ويحول بينه وبين الفاقة، فليس إلا أن يقبضه فيفرقه ما بين مأكلته، ومرافقه، وكراء داره، ثم يقضي بقية شهره مدخراً الستر، وأعظم بها من نعمة!
فلما وجد حاجة إلى مال فوق المال، وأجر فوق الأجر، رأى أن يستثمر ويتجر، فألقى شيئاً من المال في بعض التجارات وهو يرجو ثمرة تعينه على أمر معيشته، فكان حظه من تجارته كحظه من وظيفته (نُصّ نُصّ) فلم يكد يربح، ولم يكد يخسر!
فلما طال مكثه فى "المنزلة بين المنزلتين" أراد أن يتفلت منها لعله أن يصيب من الدنيا حظاً خيراً من ذلك، ومنزلة أعلى من (النُّصّ نُصّ)، ففكر فاهتدى أن يدرس أحد الألسن اللاتينية، فإن للمترجمين شأناً وجاهاً ليس لغيرهم، والعلم بلسانين من الألسن الستة ينطق بهما نحو مليار نفس هو لا يزال منزلة عليا لا يبلغها أكثر الناس، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإنه إن توفق له الأمر وتيسر فسيهيئ له ذلك رزقاً حسناً، ومنزلة حسنة فى جامعة، أو مكتب بحث، أو منصة إعلام، فهكذا ظن وأمل، وهكذا أجابته اللاتينية: "أنت هنا كما أنت هناك، نُصّ نُصّ"! فإن صاحبنا لم يكمل إلا المستوى الأول، وهجر اللسان وأهله، فقد استطال مدة الدراسة، واستبطأ ثمرتها، وثقلت عليه مغارمها، وشقت عليه أسفارها، ولقد كنت أجالسه بعد سنين من تركه الدراسة، فلا يمر بمسامعه حديث لاتيني فى نشرة أو إعلان إلا بانت فى وجهه الحسرات، ثم يسارع فيبدل القناة، أو يتخطى الإعلان لئلا يطول ندمه!
وكان صاحبنا قد ضرب بسهم فى بعض الفنون التشكيلية، وأخذ منها بنصيب (نُصّ نُصّ)، لا هو بالذي بلَّغه أن يكون فناناً، ولا هو بالذي قعد به عن صفة الفن، لكن (بين بين)، فلم يصب من الفن اسماً ولا مالاً! كما كان له نصيب من صنعة الأدب، لكن لم يصبه منها إلا فقر الأدباء!
إقرأ أيضاً: كيمياء الزمن
وكان شأن أخينا في أمر النساء كشأنه في أمره كله، فقد أحب منهن من أحب، لكنه يتهيب الزواج، ويستثقل مغارم البيوت، فتصامَّ عن كل نصح، وأعرض عن كل امرأة، وأضرب عن الزواج (محتاجاً إليه)!
كانت هذه قصة أخينا (النُّصّ نُصّ)، لم أنشرها إلا بعد أن أطلعته عليها، فضحك منها، وأَذِنَ لي في كل حرف منها.
وإني لأزعم أنه لو نظر كل منَّا في أقربائه، أو أصحابه، أو جيرانه، لرأى فيهم كثيراً من هؤلاء (النُّص نُصّ)، بل لو نظر أحدنا فى ذات نفسه لرأى كثيراً من (النُّص نُص) في نفسه، ومعاشه، فإن المرء فى دنياه هذه لا يكاد يكمل له من أمره شيء، وإن تم له شيء، فلا شك لا يكمل له كل شيء تمناه أو سعى إليه، بل نصيب في بعض، ونخفق في بعض، ونقف (بين بين) في بعض، فمن أجل هذا أقول لصاحبنا (النُّص نُص): لا تحزن يا صاحبي، فكلنا (نُصّ نُصّ).
التعليقات