تمتلك مصر مدرسة دبلوماسية عريقة تعدّ من الركائز الأساسية التي بُنيت عليها الدولة المصرية الحديثة. لكن لطالما شغل الصراع العربي – الإسرائيلي الحيز الأكبر من اهتمامات الدبلوماسية المصرية، قبل اتفاقية "كامب ديفيد" وبعدها، وجاء ذلك على حساب دوائر جيوسياسية واستراتيجية شديدة الأهمية، في طليعتها أفريقيا.
الدائرة الجيوسياسية الملتهبة
علاوة على الموقف المصري الصلب الرافض لأي عملية تهجير لسكان قطاع غزة إلى سيناء، لم تكن حركة حماس، بكل العناد الذي يتصف به نهجها، لتقبل بوساطة مصر خلال كل مراحل المفاوضات المضنية مع إسرائيل، برعاية أميركية كاملة، في الحرب على غزة، والمستمرة منذ عام تقريباً، إلا لثقتها في براعة الدبلوماسية المصرية وقدرتها على كسر العقد وابتداع الحلول التي تتسق مع مصالحها السياسية.
ومن المفيد التذكير بأن الطابع الأمني الذي تكتسي به المفاوضات، حيث يتصدرها قادة الاستخبارات، لا يحجب دور وفعالية السلك الدبلوماسي الذي يخوض نقاشات وجدالات لا تنتهي مع مختلف دوائر صنع القرار المؤثرة في العالم، تفضي إلى تحضير أوراق عمل الواحدة تلو الأخرى.
الأمر الذي يعكس النفس الطويل الممزوج بخبرة طويلة في المناورات الدبلوماسية والسياسية، وخصوصاً التصلب الإسرائيلي المعروف، والذي خبرته الدبلوماسية المصرية طويلاً إبان مفاوضات "كامب ديفيد" وملحقاتها التطبيقية وصولاً إلى "معركة طابا" الدبلوماسية.
من جانب آخر، تجاوزت الدولة المصرية حساسيتها تجاه تنظيم الإخوان المسلمين ونحتها جانباً من أجل صياغة علاقة دبلوماسية أمنية وسياسية مع حركة حماس، التي تمثل مؤسسة الحكم في قطاع غزة، تصب في صالح القضية الفلسطينية، والأمن القومي المصري، والعربي أيضاً.
كل هذه الجهود الدبلوماسية عمل محور الممانعة على عرقلتها مراراً، بهدف المضي في عملية اختطاف القضية الفلسطينية وتوظيفها بما يخدم مصالحه الجيوسياسية. إحدى صور هذه العرقلة تمثلت في إفشال اجتماع الفصائل الفلسطينية في مدينة العلمين المصرية في تموز (يوليو) 2023. ناهيكم عن أساليب الدعاية السلبية التي يمارسها محور الممانعة لإنتاج صورة نمطية سلبية عن مصر وإظهارها بأنها تعمل لحماية مصالح إسرائيل.
يذكر سفير مصر الأسبق في أميركا ووزير خارجيتها نبيل فهمي في كتابه "في قلب الأحداث" أن دوائر صنع القرار في أميركا كانت لديها موقف سلبي من عمرو موسى، وزير الخارجية المصري، وأمين عام جامعة الدول العربية فيما بعد، دفعها لاستبعاده من لائحة المرشحين المحتملين لخلافة الرئيس الراحل حسني مبارك، الذين يمكن أن تدعمهم بسبب مواقفه الداعمة للفلسطينيين.
التحديات الأفريقية
خلال ندوة بمناسبة الذكرى المئوية للدبلوماسية المصرية، قال وزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إن "السياسة الخارجية المصرية ترتكز دائماً على تنويع محاور العمل وتوسيع أطر الشراكات الدولية وفق مبادئ ثابتة قوامها الاحترام المتبادل وإعلاء المصالح المشتركة واحترام سيادة الدول واستقلال قرارها السياسي".
هذه الاستراتيجية تتجسد ترجمتها العملية إزاء التحديات الهائلة التي تواجهها مصر على صعيد الدوائر الجيوسياسية والاستراتيجية الأكثر قرباً منها، عبر إقامة حوار مع مختلف أطراف النزاع دون التدخل في شؤون الآخرين، كما هو الحال في حرب الجنرالين في السودان، وفي العملية السياسية المعقدة في ليبيا، وبدرجة أقل في لبنان، على النقيض من دخول قوى إقليمية ودولية على خطوط النزاع بما يسهم في تسعيرها.
بيد أن التحدي الأكبر لمصر ودبلوماسيتها يتمثل في سد النهضة في أثيوبيا، الذي يشد الخناق على مواردها المائية المحدودة، وهي المعروفة بكونها "هبة النيل". يعزو بعض الدبلوماسيين المصريين توسع مأزق سد النهضة إلى عدم إيلاء مصر الأهمية اللازمة لعلاقاتها الأفريقية. ولذلك يطالبون بصياغة استراتيجية أفريقية بعيدة المدى.
في كتابه "بين القدس والنيل - يوميات دبلوماسي مصري"، يقر بطرس غالي، وزير الشؤون الخارجية المصرية، ثم أمين عام الأمم المتحدة، بـ"تراجع الدور المصري في أفريقيا بعدما حقق قفزة كبيرة بين 1981 – 1991 للتعويض عن العزلة العربية (أعقبت اتفاقية كامب ديفيد)". في حين يكشف الدبلوماسي نبيل فهمي في كتابه آنف الذكر أن "اهتمام الرئيس مبارك بأفريقيا تراجع بشدة في سنوات حكمه الأخيرة". ثم زاد الطين بلة خلال حكم الإخوان المسلمين.
مع ذلك، فإن أزمة سد النهضة ليست ثنائية بين مصر وأثيوبيا، بل ثمة تداخل لمصالح دول حوض النيل، وهي أقرب إلى أديس أبابا.
سياسة الصبر الاستراتيجي للدبلوماسية المصرية منحتها ورقة ضغط شديدة الأهمية في صراعها مع أثيوبيا لحماية مواردها المائية في النيل وقناة السويس، حيث استفادت من الاندفاعة الصومالية نحو مصر للدفاع عن الاعتداء الأثيوبي على سيادتها عبر اتفاقها مع جمهورية أرض الصومال الانفصالية، من أجل رفع مستوى التعاون سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وحماية مصالحها الاستراتيجية في باب المندب.
تركيا والجغرافيا السياسية للمنطقة
بعد سنوات من القطيعة السياسية وتفاقم الخلافات، لم تندفع الدبلوماسية المصرية إلى التقارب مع تركيا عبر لقاءات سياسية تذيب الجليد المتراكم دون أن تفضي إلى نتائج ملموسة، بل عملت بشكل هادئ ومتدرج على تفكيك الملفات الخلافية، والتمهيد لإعادة مأسسة العلاقات الثنائية بشكل أكثر إنتاجية ورسوخاً على مختلف الصعد.
أهم القضايا الخلافية تتمثل في الإخوان المسلمين، والتي كان الحوار الدبلوماسي بشأنها معقداً وسط محاذير تشديد الضغوط التركية عليها بما يدفعها إلى التحالف مع إيران، وإتاحة الفرصة لطهران لتوظيف هذا التحالف بما يخدم أهدافها التوسعية، فضلاً عن نقل قواعدها السياسية بالكامل إلى إحدى العواصم الأوروبية، التي لن تألو جهداً في استخدامها كورقة ضغط على الحكومات العربية.
إلى ذلك، يكتسي التقارب المصري–التركي أهمية تتجاوز التعاون الاقتصادي والاستثمار، نحو تعزيز التعاون الاستراتيجي وبناء شراكة قادرة على التأثير في المعادلات الإقليمية. يشكل تطوير العلاقة مع تركيا أحد المفاتيح الجيوسياسية المهمة للدبلوماسية المصرية على الصعيد الأفريقي نظراً لعلاقات تركيا القوية والأدوار التي تقوم بها في ليبيا والسودان والصومال، وخصوصاً أثيوبيا. كما أنها تفتح فرصاً وآفاقاً لزيادة مساحة نفوذ وتأثير مصر في معادلات الأمن والطاقة شرق المتوسط.
علاوة على ذلك، فإن تطوير التقارب المصري–التركي، الذي يحظى بدعم خليجي واضح تجلت ملامحه في خطاب وزير الخارجية التركية هاكان فيدان في الجامعة العربية خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب، يدفع باتجاه تكوين تحالف إقليمي يجمع بين مصر وتركيا والسعودية وقطر والإمارات، يمكنه إحداث تأثير فعلي في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
بدءاً من ترتيبات اليوم التالي لقطاع غزة ونظام الحكم فيه، مروراً بزيادة الضغط السياسي والدبلوماسي للوصول إلى حل الدولتين، وصولاً إلى عملية إعادة بناء الدولة الوطنية في عدد من الدول العربية وإنقاذها من براثن الميليشيات والأنظمة الموازية.
بيد أن أبرز نجاحات الدبلوماسية المصرية مؤخراً يكمن في الانضمام إلى تكتل "بريكس" العام الماضي، بما يسهم في تعزيز علاقاتها الدولية، وتطوير شراكاتها الاقتصادية في ظل الفرص المستقبلية التي يحملها هذا التكتل لإعادة التوازن إلى النظام العالمي.
التعليقات