والسؤال بعد واحد وثلاثين عامًا على توقيع اتفاقات أوسلو: هل ما زالت هذه الاتفاقات قائمة وصالحة؟ نظريًا، الاتفاقات الدولية تحكمها القوة ومتغيراتها وتحولاتها، فلا يوجد اتفاق له صفة القدسية، فكيف باتفاق موقَّع بين طرف يحتل الأرض ويحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني حقوقه التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية، وبين شعب ما زال، رغم الاتفاق، يناضل ويقاوم للتحرر وقيام دولته؟
ولعل المفارقة اليوم أن يتزامن الحديث عن الاتفاق مع حرب غزة، التي تعتبر نافية للاتفاق وصلاحيته. والمفارقة الثانية لهذا الاتفاق غير المسبوق في العلاقات الدولية أنه، ورغم انقضاء فترة صلاحيته، ما زال قائمًا ويحكم العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، رغم أن كل طرف يتعامل معه كأنه غير موجود.
والسؤال أيضًا: هل يملك الفلسطينيون أو منظمة التحرير الإعلان الصريح عن إلغاء الاتفاق بحكم انتهاء صلاحيته وعدم تحقيق الهدف منه؟ ولماذا الفلسطينيون؟ لأنَّ إسرائيل دفنت الاتفاق منذ أن وُقِّع، واختزلته بعبارة واحدة تضمنها الاتفاق، وهي الاحتكام للاعتبارات الأمنية التي تجب ما دونها، ولعل هذا هو الخطأ الذي وقع فيه المفاوض الفلسطيني بتوقيعه على الاتفاق، علمًا أنه وقع بأمل إنهاء الاحتلال والتفاوض على قيام الدولة الفلسطينية.
والسؤال أيضًا: ما البديل لاتفاقات أوسلو؟ الاتفاق لم يُوقَّع بين دولتين، بل بين طرفين غير متكافئين، ولعل قيمته الوحيدة الاعتراف بوجود منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وأيضًا أنه سمح بعودة القيادة الفلسطينية وعودة منظمة التحرير للأراضي الفلسطينية لتلتقي، ولأول مرة، عناصر الدولة: السلطة والشعب والأرض، رغم أن العنصر الأخير لم يكتمل باحتلال إسرائيل للأراضي المقررة للدولة الفلسطينية وفقًا للاتفاق.
ومنذ أن تم التوقيع على الاتفاق، يتجدد الحديث كل عام عن جدوى هذا الاتفاق. فأي اتفاق يقاس بالهدف منه وتحقيقه. وإذا فشل الاتفاق في تحقيق الهدف منه، فقد شرعيته وقوته القانونية، وتحول إلى اتفاق قوة وفرض إرادة القوي، ووجب هنا مراجعته والمطالبة بإعادة النظر فيه لتوقيع اتفاق جديد يراعي الواقع السياسي الجديد الذي يحكم علاقة أطرافه.
ولعل المفارقة السياسية الكبيرة للاتفاق لقاء طرفي الصراع لأول مرة والمصافحات التاريخية بين قياداتهما، مما حمل معه بعض الأمل في إمكانية إنهاء الصراع بالطرق السلمية، وأن اتفاق أوسلو يمكن أن يشكل نواة لهذه التسوية. ولعل هناك بُعدًا إقليميًا ودوليًا لا يمكن تجاهله في توقيع الاتفاق، فلا يمكن تصور هذا الاتفاق دون قوة دفع عربية ودولية توفر له الضمانات وتتماهى مع الأبعاد العربية والدولية للقضية الفلسطينية.
وبقراءة بنود الاتفاق، فالهدف منه هو إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية السلمية المدنية الديمقراطية، ومنها الإعلان الرسمي عن إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وفي قلبه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. بعبارة أخرى، حدد الاتفاق أن شرط إنهاء الصراع هو إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وإيران وخيار الحرب الشاملة
وهنا السؤال: ما الذي تحقق من الاتفاق؟ ما تحقق أولًا أنه فتح باب السلام العربي ليتم التوقيع مع أكثر من دولة، ونهاية ما يُعرف تاريخيًا باسم الصراع العربي الإسرائيلي. وأما الهدف الرئيس من الاتفاق فلم يتحقق، وهو إنهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية، رغم أن الدولة الفلسطينية حققت خطوات كثيرة على المستوى الدولي، وآخرها اكتساب مقعد دائم العضوية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وزيادة عدد الدول المعترفة بفلسطين، وتبني مقاربة الدولتين كأساس لإنهاء الصراع.
وبالمقابل، عملت إسرائيل منذ أن وقع الاتفاق على تفريغه من مضمونه وأهدافه السياسية، وتحوله لمجرد اتفاق أمني يقوم على التنسيق الأمني، والتحكم في كل الموارد الاقتصادية والمالية التي تسمح للسلطة الفلسطينية بأن تمارس سلطاتها ووظائفها، ولتحولها لمجرد مؤسسة تابعة لها. وقامت بتوظيف الاتفاق للمضي قدمًا في إجهاض فكرة الدولة الفلسطينية بالتوسع في الاستيطان في كل الأراضي الفلسطينية، وإلغاء ما عرف بالمناطق ج، وتوسيع خارطة الاستيطان وزيادة عدد المستوطنين لخلق ما عرف بدولة المستوطنين في قلب الأراضي الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، العمل على إلغاء أي رمز سيادي للدولة الفلسطينية بتوحيد القدس وعدم تقسيمها، وتفريغ أي مضمون سياسي للقدس والأقصى.
إقرأ أيضاً: الثابت والمتغير في العلاقات الدولية
ولتصل الأمور اليوم إلى ذروتها مع أكثر الحكومات اليمينية تشددًا في إسرائيل، ومع الحرب المستمرة على غزة والاقتحامات المستمرة لكافة الأراضي الفلسطينية ورفضها المطلق لقيام الدولة الفلسطينية، وهو بمثابة إعلان سياسي قاطع بأن اتفاق أوسلو قد انتهى ودُفن ولم يعد له وجود.
والحقيقة أن هذا الاتفاق قد انتهت صلاحيته مع العام 1999، وهو نهاية العمل بالاتفاق الذي كان من المفترض أن يتم البدء فيه مرحلة مفاوضات جديدة محورها مفاوضات الدولة الفلسطينية. بعد هذه السنوات لم يبقَ أمام السلطة الفلسطينية إلا الإعلان عن مرحلة الدولة الفلسطينية والنضال بكل المقاربات لتحويل الدولة إلى حقيقة تاريخية وسياسية، والربط بين السلام العربي وقيام الدولة وأمن واستقرار المنطقة وقيام الدولة الفلسطينية. وهذا يحتاج إلى رؤية وطنية فلسطينية واحدة، وحكومة فلسطينية واحدة، وإنهاء الانقسام. ويبقى المتغير الفلسطيني هو المتغير الرئيس والحاكم لقيام الدولة وإنهاء الاحتلال وإنهاء الجدل حول اتفاق أوسلو.
التعليقات