منذ مؤتمر وستفاليا وظهور الدولة القومية كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية عام 1695، وبالرغم من كل التطورات التي لحقت ببنيتها، فإنَّ العلاقات الدولية تتحكم بها ثوابت لا تتغير. أول هذه الثوابت هي الدولة باعتبارها الفاعل الرئيسي الذي تتمحور حوله التفاعلات الدولية. أما الثابت الثاني، وكما أشار إليه المؤرخ اليوناني ثيوسيديس، فهو العقدة الأمنية والبقاء التي تحكم سلوك الدولة. والثابت الثالث هو المصالح القومية التي ترتبط بكل دولة، وتفسر لماذا تذهب الدول إلى الحروب والتحالفات الدولية، ولماذا تتسابق على امتلاك القوة ومسايرة كل تطوراتها.
إنَّ مكانة الدولة ودورها في العلاقات الدولية يتوقفان على مدى امتلاكها للقوة. هذه القوة تعني في أوسع معانيها قدرة الدولة على التأثير في سلوك الفاعلين الآخرين بما يتفق ومصالحها القومية، وهي حالة متغيرة وليست ثابتة، وتفسر لنا التحالفات الدولية والتحولات في هيكلية النظام الدولي، من التعددية إلى الأحادية والعودة إلى التعددية القطبية. إنَّ التصنيفات التقليدية للدول على سلم القوى الدولية لم تعد صالحة، فلم تعد الدول تُصنَّف كدول عظمى أو كبرى أو صغيرة فقط. اليوم، ومع تطور القوة وبروز القوة الناعمة والاقتصادية كأحد عناصر القوة الصلبة، نلاحظ تحولاً في دور الدول وتأثيرها، فلم تعد الدول الصغيرة صغيرة أو تابعة، بل نجد تأثيرها الواضح في القرار الدولي والسلوك السياسي للدول الأخرى، كالدول النفطية التي تتحكم في مستقبل الطاقة بفضل قدراتها المالية، وكذلك صعود قوى إقليمية مثل الهند ودول الخليج العربي في العلاقات الدولية.
تتسم العلاقات الدولية بحالة من الفوضى المحكومة بالقوة وبالدور الذي تقوم به الأمم المتحدة كمنظمة عالمية تهدف إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين. وبالرغم من النقاش حول مستقبل الأمم المتحدة، فإنها ما زالت الإطار الدولي الذي تلجأ إليه الدول. من بين أبرز التغيرات والتحولات، ظهور الفواعل غير الدوليين، مثل الجماعات والحركات التي تعمل كوكالة للدول وتكون بديلاً لمواجهة القوة المباشرة بين الدول.
اليوم، تبرز العديد من النظريات التي تفسر العلاقات الدولية، وأبرزها النظرية الواقعية والنظريات المثالية. بالرغم من ذلك، فإنَّ الواقعية هي الأقرب لتفسير تراجع القيم والمبادئ التي تقوم عليها العلاقات الدولية. نلاحظ اليوم تفككاً وتراجعاً في مبادئ مثل العدالة الدولية والشرعية الدولية والسلام والأمن الدوليين، وكذلك مبدأ الإنسانية والخيرية والتعاون الدولي. ورغم ذلك، لا تزال الكثير من الدول تتمسك في سياساتها بمبادئ الإنسانية والخيرية والمساعدات، كما في سياسات دول الخليج كالإمارات والسعودية وقطر.
إقرأ أيضاً: أميركا وإسرائيل: خلاف أم اختلاف
الثابت في العلاقات الدولية هو ما يفسر لنا تراجع النظريات المثالية لصالح العقدة الأمنية التي أشار إليها ثيوسيديس. هانز مورغنثاو، أحد رواد الواقعية، يقول إن القانون الدولي والشرعية الدولية لم يعودا فعالين في ظل طغيان القوة ومصلحة الدول القومية. القيم الدولية، بما فيها العدالة وحماية الضعفاء، تراجعت أمام هيمنة الدول الكبرى التي تسيطر على النظام الدولي.
لقد حلم الفلاسفة عبر العصور بتكوين حكومة عالمية تقوم على العدالة والمساواة بين البشر، تحقق السعادة الإنسانية وتحد من النزعة القومية والحروب. إلا أنَّ انتشار الحروب، كما نرى اليوم في أوكرانيا وغزة، قفز على العدالة الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. لقد دفعت الدول الصغيرة ثمناً لهذه الحروب، التي تخوضها الدول الكبرى عن طريق الوكلاء.
إقرأ أيضاً: نريد إنهاء الاحتلال
اليوم، هناك نضال لبناء نظام دولي يقوم على التعددية القطبية، بعيداً عن احتكار القوة من قبل دولة واحدة. من أبرز التطورات في هذا السياق هو كيف تستخدم دول مثل الولايات المتحدة والغرب مبادئ العدالة الإنسانية لتثبيت هيمنتها على النظام العالمي. لدينا أمثلة على ذلك في الانقلابات العسكرية في أفريقيا، حيث يزعم الغرب تمسكه بمبادئ العدالة، في حين تتهمه الشعوب بنهب ثرواتها. العراق وليبيا، والقضية الفلسطينية خاصة، تشهد على تداخل القوة مع العدالة الدولية.
في النهاية، يبقى أن العدالة والشرعية الدولية تحتاجان إلى القوة. فلا قانون بلا قوة، ولا شرعية بلا قوة. وهذا يستدعي التفكير في بناء تحالفات بين الشعوب بدلاً من الدول. في النهاية، تبقى العلاقات الدولية صراعاً بين القوة والمثالية.
التعليقات