لعل من تداعيات الحرب على غزة تجدد الحديث عن ماهية العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وإلى أين ستذهب هذه العلاقات ومستقبلها. وهذه نتيجة حتمية من منظور أنَّ الولايات المتحدة كدولة عظمى لها مصالحها العالمية، التي تفرض عليها الحفاظ عليها لتحتفظ بهذا الدور وسط تعقيد القضايا الدولية وتحولات القوة وصعود الصين ومنافستها القوية للدور الأميركي، وسعيها مع روسيا لإعادة بناء النظام الدولي على أساس التعددية. وقد ساهمت حرب غزة بشكل كبير في هذه التحولات والتغيرات الدولية والإقليمية. أمَّا إسرائيل، كدولة لها مصالحها، وأبرزها معضلة الأمن والبقاء واحتلالها للأراضي الفلسطينية ورفضها إقامة دولة فلسطينية، فإنَّ هذا الموقف ينعكس على السلام في المنطقة الذي تسعى له أميركا.

كشفت هذه الحرب عن تغيرات واختلافات في وجهات النظر بين الدولتين تجاه العديد من القضايا، أهمها شكل اليوم التالي للحرب ومستقبل السلام والدولة الفلسطينية. قضية العلاقات ليست جديدة، فمحددات العلاقات كما سنرى أقوى من أي اختلاف يطرأ عليها، وهذا أمر طبيعي. فتبقى أميركا دولة لها مصالحها، وإسرائيل أيضًا دولة لها مصالحها، وقد تقترب أو تبتعد المسافة بين المصلحتين. والأساس في هذه العلاقات هو أنَّ المحددات أقوى من أي اختلاف، بدليل مشاركة أميركا والدعم المطلق لإسرائيل في هذه الحرب عسكريًا وماليًا، وتوفير الغطاء الدولي في مجلس الأمن، وتبني وجهة نظر إسرائيل في حقها في الدفاع عن نفسها.

ما أعاد البحث في هذه العلاقات هو وفاة الأسير الأميركي لدى حماس في وقت الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهو أمر قد يستغله الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، الذي يتصيد أي أخطاء لإدارة الرئيس جو بايدن في هذه الحرب. وتأكيدًا على عمق العلاقات بين الطرفين، وصفت صحيفة جيروزاليم بوست الخلافات بينهما بأنها مجرد "مشاجرة عائلية ممتدة". وتضيف الصحيفة أنَّ الدولتين تتصرفان مثل "زوجين مسنَّين يؤلف الحب بين قلبيهما"، ووصفت العلاقة بأنها أشبه بـ"الزواج الكاثوليكي الأبدي الذي لا يفرقه إنسان"، وأن الرب حاضر في هذه العلاقة. وقد سبق للرئيس جون كينيدي عام 1962 وصف هذه العلاقات بـ"العلاقات الخاصة"، التي تستند إلى المصالح الإستراتيجية والقيم المشتركة واللوبي اليهودي ودوره في السياسة الأميركية. ومع ذلك، تثير هذه العلاقات تساؤلات مستقبلية عديدة.

يرى بعض المحللين، مثل المؤرخ الفرنسي ماريو ديل يبرو، أنَّ إسرائيل لم تعد تبدو بشكل متزايد عامل استقرار بالنسبة إلى الولايات المتحدة، رغم قوة الروابط وخصوصية العلاقات. تاريخيًا، دعمت أميركا قيام إسرائيل كدولة عام 1948 رغم تردد الخارجية الأميركية، خشية تأثير ذلك على علاقاتها مع العالم العربي. شكلت حرب 1967 إحدى المحطات الهامة في توثيق العلاقات، وتحولت العلاقة إلى شراكة خاصة، حيث أصبحت إسرائيل أكبر المستفيدين من المساعدات المالية والعسكرية الأميركية. خلال الحرب الباردة، أصبحت إسرائيل شريكًا رئيسيًا في مواجهة الدول والأنظمة الموالية للاتحاد السوفييتي.

إقرأ أيضاً: حرب غزة والخيار الشمشوني

تفسر الشراكة الإستراتيجية بين أميركا وإسرائيل العديد من السرديات الأيديولوجية التي تؤكد على الروابط الحضارية بين الدولتين. المحور الديمقراطي يرى في إسرائيل واحة الديمقراطية وسط عالم من التخلف السياسي، والمحور الديني يربط بين الإنجيلية الأميركية والصهيونية، إذ يرى أهل هذا الرأي أنَّ عودة المسيح مرتبطة بتحقيق أهداف الصهيونية. المحور السياسي يتمثل في دور الأيباك، خاصة في الانتخابات كما نرى الآن في الانتخابات الرئاسية. وهناك ارتباط وثيق بين الصهيونية والشعبوية الأميركية، حيث ظل جزء كبير من المثقفين الديمقراطيين ينظرون إلى إسرائيل بإعجاب.

حاول العديد من الرؤساء الأميركيين تغيير شروط هذه العلاقات، لكنها لم تصل إلى المساس بعمق العلاقة وأساسها، والمثال الواضح على ذلك هو إدارة الرئيس بايدن، فرغم الاختلافات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ظلَّت العلاقات هي الأساس. يرى البعض أنَّ إسرائيل لم تعد تشكل عامل استقرار أو شريكًا رئيسيًا في احتواء تهديدات الأمن القومي الأميركي. وبالتالي، تبرز اليوم فكرة أنَّ المصلحة الوطنية الأميركية لم تعد تتفق مع مصلحة إسرائيل.

إقرأ أيضاً: إسرائيل وإيران وخيار الحرب الشاملة

يشير البعض إلى أنَّ التمسك الأيديولوجي بدأ يتراجع تدريجيًا، خاصة بعد تراجع التعاطف الأميركي الأبدي مع إسرائيل. ظهرت جماعات تنتقد السياسة الإسرائيلية حتى داخل المجتمع اليهودي، وقد ساهمت عوامل مثل الاستيطان ورفض حل الدولتين والعنف والقوة والحرب في تعزيز هذه الانتقادات. وقد أثرت حرب غزة بشكل خاص على هذه النظرة، إضافة إلى تصريحات نتنياهو واستمراره في الحرب والتحايل على المقترحات الأميركية، وخصوصًا موقفه من التمسك بالبقاء في غزة وعدم الانسحاب من محور فيلادلفيا.

لا شك في أنَّ هذه السياسة قد تعمق الخلاف أكثر من الاختلاف، وقد توسع نطاقات الحرب الإقليمية وتهدد أي إمكانية للسلام. ويبقى أنَّ تطور هذه العلاقات تحكمه متغيرات كثيرة، وأهمها المتغير العربي والإسلامي، ودور الصوت العربي والإسلامي وقوته في التأثير على مجمل السياسة الأميركية بتنوع الشراكات الاستراتيجية والربط بين السلام وإقامة الدولة الفلسطينية. ومع ذلك، تبقى خصوصية العلاقات هي الثابت والمحدد في العلاقات بين الدولتين، ما يجعلنا أمام نموذج خاص في العلاقات بين الدول.