تابعت، كما المجاميع الشعبية في لبنان، "صحوة الثالث من أيلول" يوم اعتقال الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بجرم التورط في قضايا مالية مختلفة الأبعاد والأعماق. وتولّدت في ذهني حزمة من الأسئلة: ما الجديد؟ هل تفاجأت المجاميع اللبنانية بتورط رياض سلامة؟ من يحاكمه؟ أي صفقة محلية أو إقليمية في الأفق؟ هل نحن أمام عرض قسري لمسرحية مكررة ومملة؟ وماذا لو تكرر سيناريو ابتزاز إمبراطور "إنترا" روجيه تمرز؟

رياض سلامة ليس مجرد موظف فاسد كان في موقع المسؤولية حين انهار النظام المالي في لبنان، بل هو وليد البيئة الفاسدة والإمبراطور المالي المدلل لمنظومة الفساد والإفساد التي لا تزال تمسك بمفاصل السلطة في لبنان.

صحيح أن يوميات رياض سلامة، إن تحدثت، ستروي حكايا عن أقذر منظومة حكم شهدها لبنان وربما العالم. فهو كما يقال، يملك "الصندوق الأسود". لكن لا أدري إن كان المواطن اللبناني بحاجة إلى صندوق سلامة كي يتبين له إجرام سلطته ويخرج من عنابر "ذل التبعية".

السر الكبير لم يخرج من الصندوق الأسود الخاص بالأوصياء على لبنان، وهو يتمحور حول توقيت اعتقال رياض سلامة! لماذا الآن؟ وما علاقة "صحوة الثالث من أيلول" (سبتمبر) بتداعيات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)؟

أدت غزوة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى سلخ القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وكان من تداعياتها إعادة تشكيل خارطة التحالفات في لبنان، حيث شهدنا إعادة تموضع سياسي لقوى بارزة. الجميع، سواء في الداخل اللبناني أو على المستوى الإقليمي، يحاول تعزيز وضعه وفق قاعدة الحفاظ على قواعد "اليوم التالي". وهذا ما تبين بدءًا من العلاقة بين واشنطن وطهران، وقواعد الاشتباك بين إسرائيل وحزب الله، وصولًا إلى ثوابت المحافظة على منظومة الحكم في لبنان. ولا يمكن هنا فصل مواقف سمير جعجع الأخيرة، وانشقاق تيار جبران باسيل، أو إعادة تموضع وليد جنبلاط سياسيًا عن الحراك الإقليمي والدولي لإيجاد أرضية سياسية لما يمكن وصفه بـ"صيغة حكم الأمر الواقع".

بعد الخروج من منطقة "تخوم الحرب"، ثمة مشاهد استراتيجية سبقت "صحوة الثالث من أيلول" يوم اعتقال رياض سلامة، منها:

في الظاهر، حشد جعجع أبناء وأحفاد "المقاومة اللبنانية" ليشهر معهم سلاح التفاوض: "يمكن إعادة النظر في كل شيء ما عدا حدود لبنان ووحدته.. الدستور غير مقدس.. ولنعقد طاولة حوار وطنية".

هل يريد حزب الله في "اليوم التالي" أفضل من عناوين كهذه، يلاقي بها خصوم الداخل ويقدم لهم "قربانًا" بحجم النفوذ؟

في هذا الوقت، برز حراك سعودي - فرنسي جدي لتحريك مياه الرئاسة، ويتقاطع هذا المسعى مع تعمق أميركي في اتجاه حسم ملف الحدود اللبنانية - الإسرائيلية.

مجدداً، السر الكبير ليس في صندوق رياض سلامة، بل في "صندوق باندورا" الأوصياء. وأيًا كانت كلمة القضاء في مصير رياض سلامة، فإن المطلوب هو طي هذا الملف وإخفاؤه في أحشاء الماضي. لا يمكن الجلوس على طاولة لفتح صفحة ناصعة للبنان الجديد، بينما على الطاولة ملفات قذرة.

في 13 آب (أغسطس) الماضي، كتبت مقالاً في صحيفة "إيلاف" تحت عنوان "تسونامي طوفان الأقصى يعصف بصيغة الحكم في لبنان". واليوم، على المجاميع الشعبية المقيدة بأغلال "دويلات الطوائف بإعلام" أن تستعد لمرحلة أسوأ، حيث سلطة التاريخ الأسود تقودنا إلى لبنان "اليوم التالي"!