تنظر روسيا إلى عمليَّة اعتقال مؤسس تطبيق تيليغرام على أنها إحدى حلقات الصراع بين النظام العالمي ذي القطب الأوحد بزعامة أميركا، وبين القوى التي تسعى إلى تأسيس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بسبب الهوية الروسية لمؤسسه بافل دوروف.

وترى موسكو أنَّ الغرب يحاول إخضاع منصات التواصل الاجتماعي لقواعد القمع الليبرالية الاستنسابية من أجل الهيمنة على ميادين التواصل الاجتماعي عبر أدواته، وضمان تقديم رواية وحيدة للرأي العام وهي الرواية الغربية.

ازدواجية القواعد "الليبرالية"
بعدما تسيدت شركة Huawei الصينية قطاع الاتصالات في العالم، وصارت تزاحم شركة Apple الأميركية في مجال تصنيع الهواتف الذكية، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقوبات قاسية عليها في أيار (مايو) 2019، بموجب "القرار الرئاسي رقم 13873". استند القرار إلى قانون الطوارئ الاقتصادي الذي يمنح الرئيس "سلطة تنظيم التجارة بعد إعلان حالة الطوارئ الوطنية لمجابهة تهديد غير عادي للولايات المتحدة".

كانت التهمة الموجهة إلى Huawei هي استخدامها من قبل الحكومة الصينية للتجسس. هذا المثال يعد البرهان الأوضح على أن أميركا لا تمتثل لقواعد النظام الليبرالي الذي تتربع على عرشه كقطب أوحد، وأنها تعمل على تطوير هيمنتها السياسية لتشمل ميادين التكنولوجيا الجديدة والإعلام الرقمي.

بعد ذلك دخلت أميركا في حرب مع تطبيق تيك توك الصيني الهوية، ولا سيما غداة تفوقه الباهر على التطبيقات الأميركية داخل السوق الأميركية نفسها. هذا النزاع الذي استمر لسنوات، تُوِّج بإصدار الكونغرس الأميركي قانونًا يضع التطبيق الصيني بين خيارين: إما بيعه لمستثمرين أميركيين، أو إقفال أبواب السوق الأميركية أمامه، بذريعة عدم امتثاله للقواعد الليبرالية نفسها التي تواظب واشنطن على خرقها. مع اتهامات سياسية واضحة وجهتها السلطات الأميركية والمشرعون إلى تيك توك بمشاركة بياناته مع الحكومة الصينية.

لم ينفع تعاون التطبيق الواسع المدى مع السلطات الأميركية في التخفيف من غلوها، لأنها ببساطة لن تسمح بأي منافسة تهدد هيمنتها السياسية وقواعد النظام العالمي الذي تتزعمه، خصوصًا في ميدان منصات التواصل التي تحولت إلى إعلام يوازي الإعلام التقليدي، ويتفوق عليه في القدرة على الوصول الأسرع إلى شرائح جماهيرية أوسع بكثير، وبالتالي التأثير في توجهات الرأي العام وصناعة تحولاته.

من رمز الليبرالية إلى رمز الإجرام
ما سبق يساعد في الوقوف على الأسباب العميقة التي تكمن خلف اعتقال مؤسس تطبيق تيليغرام الروسي بافل دوروف، خصوصًا عندما نعلم أن محاربة تطبيق تيك توك تسير بالوتيرة نفسها وللأسباب الأميركية عينها في بريطانيا ودول غربية أخرى. ضمن اللائحة الاتهامية المرعبة التي قدمها مكتب المدعي العام الفرنسي لاعتقال دوروف، يبرز العامل السياسي بوضوح من خلال تهمتين اثنتين: الأولى "عدم التعاون مع السلطات"، والثانية "خطاب الكراهية"، الذي يخضع دائمًا لعملية تدوير وإعادة إنتاج حسب المعايير الغربية لـ"الكراهية"، والتي صارت تركز مؤخرًا على روسيا والشعب الفلسطيني.

وفي موازاة عملية الاعتقال، شنّ الغرب حملة إعلامية واسعة لتشويه صورة مؤسس تيليغرام بافل دوروف أمام الرأي العام، عبر سلسلة من التقارير والتسريبات، ترمي إلى التغطية على الصبغة السياسية للعملية، التي تطال روسيا كهدف رئيسي. تتحدث بعض التسريبات عن لقاء مزعوم جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومؤسس تيليغرام في أذربيجان، بسبب تصادف زيارة دوروف لباكو مع زيارة بوتين للاجتماع بنظيره الأذري إلهام علييف. ورغم أن الطرفين نفيا حصول اللقاء، إلا أنه لا يوجد أي مبرر يمنع حصول لقاء بين رئيس الجمهورية وأحد مواطنيه، ولا يشكل ذلك سندًا جرمياً لتوجيه اتهامات.

بيد أن هذه التسريبات تؤكد أن روسيا هي الهدف. تقول باريس عبر تسريبات إعلامية إن بعض الاتهامات الموجهة إلى دوروف مرتبطة بأحداث إرهابية حصلت عام 2015 في فرنسا، وطالت من بعدها دول أخرى، كان القاسم المشترك فيها هو استخدام الإرهابيين لتطبيق تيليغرام. المفارقة أنه في ذلك الوقت بالتحديد، كانت فرنسا تحتفي بدوروف، وتقدمه على أنه "رمز للمعارضة الليبرالية (مرة جديدة) ضد الحكومة الروسية"، بعد قيام دوروف ببيع تطبيق (VK) إلى مجموعة mail.ru الروسية. وهو تطبيق على نسق فايسبوك، وموجه بالدرجة الأولى إلى العالم الناطق باللغة الروسية، نتيجة خلاف مع الأمن الفيدرالي الروسي. ثم عادت ومنحته الجنسية الفرنسية عام 2021، فكيف جرى منحه الجنسية في ظل هذا السجل الاتهامي المرعب؟

فيما بعد، قام دوروف بتأسيس تطبيق تيليغرام بالشراكة مع شقيقه نيقولاي، ونجح في توسيع قاعدة مستخدمي التطبيق من 45 مليون إلى نحو مليار مستخدم خلال عقد تقريبًا. وهذا ما جعله تحت مقصلة قواعد القمع الغربية الليبرالية، التي لا تتقبل فكرة وجود منافس صيني أو روسي، خصوصًا في مثل هذه الأوقات التي يحاول فيها الغرب بشكل محموم تقزيم روسيا.

ثالثة
زاد الأمر سوءاً بالنسبة للغرب غداة ارتفاع شعبية تيليغرام، وتحوله إلى منصة فاعلة لتقديم الأخبار التي تدحض مزاعم الغرب حول أوكرانيا وما يجري فيها، ولتقديم الرواية الروسية بعدما حجب الغرب جميع وسائل الإعلام الروسية، بما يعكس حجم التزامه المزعوم بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. وهذا ما دفع البيروقراطية الأوروبية إلى التعاون مع الحزب الديمقراطي الأميركي من أجل إنشاء قواعد رقابة "ليبرالية" كاملة، لترويض وتدجين منصات التواصل الاجتماعي، خصوصًا تلك التي تحمل هوية روسية أو صينية، لتأمين استدامة سيطرة النظام العالمي بزعامة أميركا، واحتكار عملية "حياكة" الرواية التي تقدم للرأي العام.

كان القانون الرقمي الذي أقره الاتحاد الأوروبي أواخر السنة الماضية إحدى ثمار هذا التعاون. يفرض هذا القانون على شركات تكنولوجيا المعلومات الالتزام بقواعد الرقابة الليبرالية الغربية، تحت طائلة تعرضها إلى حزمة عقوبات تصل إلى 6 بالمئة من إيراداتها في العالم. وترتفع إلى 10 بالمئة في بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي لكنها أقرت القانون نفسه.

في موازاة ذلك، تعرض تيليغرام منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 إلى حملة ممنهجة من قبل مؤسسات وأجهزة الدول الأوروبية والأميركية ووسائل إعلام غربية، من أجل خلق مناخ يبرر وضعه تحت مقصلة الاتهام بتوفير المساحة الآمنة للمتطرفين والخارجين عن القانون، والأهم خطاب الكراهية وفق المعايير الغربية.

تتسق هذه الحملة في مضمونها وأهدافها مع محاولات الغرب تقويض حضور روسيا في كل المجالات الثقافية والإعلامية والرياضية، ولا سيما أن موسكو تستخدم تيليغرام كمنصة موثوقة لتقديم روايتها لما يجري في أوكرانيا، ولدحض المزاعم الغربية التي تستخدم لخداع دافعي الضرائب، وتبرير إغداق الأموال والمساعدات العسكرية على أوكرانيا.

في حوار مع الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون عبر أكس في نيسان (أبريل) الماضي، أسر بافل دوروف بأن "تطبيق تيليغرام يقدّر المستثمرون قيمته السوقية بثلاثين مليار دولار". وكشف أنه "يحظى باهتمام بالغ من أجهزة الاستخبارات الأميركية التي أرادت الوصول إلى أنظمة وقواعد بيانات التطبيق". كما كشف أيضاً عن محاولة الاستخبارات الأميركية تجنيد أحد كبار مساعديه، من أجل فتح بوابة خلفية في التطبيق تتيح لهم التجسس وفرض رقابة معينة.