سألني الناس؛ القراء والأصدقاء -على حدٍّ سواء-، عن سر العودة للوطن بشكلٍ مُفاجئ، بعد غربةٍ استمرت ما يزيد عن نصف قرن بقليل. وبدا ذلك منهم من باب الفضول، وهي من بعضهم: بعضها بصفاء نيَّة، والأخرى مَحشوَّةٌ بالمقاصد الخبيثة الخفيَّة، غير أن هذه وتلك بمنظور أنواع الفضول تستويان في معرفة الهدف الأساسي.

هناك من يسألك من باب الفضول ليس إلا، والآخر يريد العودة لكنه مقيّد بأغلال هواجس الماضي والحاضر، ويجهل بأننا من جنس الاختلاف في العقول والقناعات والأمزجة! أسئلة متكررة لا يمل غرباء الوطن من تكرارها يومياً، وهي مشبعة بالحنين المريض للأوطان، والتردد في العودة خوفاً من صدمة الواقع، والخسارة الأبدية.

قرارٌ العودة، وصفَه بعضهم بالغباء -بل بالجنون-؛ لكنني رأيته بعد قسوة الغربة، وعذابات البُعد عن الأهل وأماكن الذكريات، قرارًا مَنطقيًّا لـ(شيخٍ) في آخر العمر، يريد أن يكون بين أهله، وهو يردد قول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة ... وأهلي وإن ضنوا علي كرام.

العراق كما رأيته، وبالمقارنات، أحسن حالاً مما رأيته قبل سنوات؛ من ناحية الأمن والأمان بعد مجازر القتل والذبح على الهويَّة في شوارع مدن العراق. هناك بعض الاستقرار في النفوس؛ لكنها مشحونة بالخوف من المستقبل. ومع ذلك اقتنعت بأن ما أراه من ألم عراقي، وكأنه أفضل خيارات العيش السعيد؛ لذا ترى المواطن يتلذَّذ بالألم ويُسامره حتى في أيام وليالي الفرح والانتصار.

في هذا الوطن تجد المتناقضات الغريبة؛ حيث ازدهار المولات، والمطاعم والمقاهي العصرية، ومجمعات السكن بغسيل الأموال الحرام؛ لكنك تجد معها آخر صيحات التخلف تتفشى في المدن؛ فيسقُط بها جمال المدن العتيقة، وخاصة بغداد.

فالمدن تريَّفت في السلوك، وانمحى منها الكثير من التمدُّن والتحضر، وانتشرت الغيبيات والسحر والعفاريت والطقوس الحزينة. ستجد غرائب الزمن حاضرة في الشوارع والحارات؛ سترى أحدث سيارات العالم وأغلاها، وبجوارها تسير عربة (الستوتة والتكتك) متباهية بصناعتها الهندية، وستتعجب من شوارع وحارات مليئة ببسطات الشباب اليائس من الحياة، وعشوائيات ومزابل ومياه آسنة علامةً بارزةً لا تفارق المدن.

أما ناس الوطن فمشغولون بالشكوى والمطالب، والقيل والقال، وشرب النرجيلة في المقاهي، وتعاطي المخدرات -سرًّا وجهرَا-، وحديثهم اليومي عن الأزمات التي تتوالد بين دقيقة وأخرى؛ من انقطاع الكهرباء وتوحُّشِ أصحاب المُولِّدات، ورداءَةِ الطحين والأرز، ونقص الحمص والفاصوليا من قائمة الحصة التموينية، وكأنك لا تعيش في بلد يطفو فوق بحيرات من النفط؟!!

وفي الوطن حديث لا يُمَل عن البطون، والأكلات المفضلة، والمطاعم التي أصبحت علامةً للمدن؛ في انتشارها، ووجباتها المتنوعة التي لا تخلو من منافسات تسويقية، فتلك طريقة عمل القوزي والمندي والكباب الكردي والأفغاني وكيفية عمل الباجة الموصلية والحلويات النجفية والتبُّولات، بأنواعها اللبنانية والسورية.

ستجد في الوطن كلَّ سلع العالم، حاضرة ومتوافرة، وما لَذَّ وطاب من المأكولات والمشروبات الروحية والغازية. وسترى "بلوكات" الدولار تتجول بأَريَحِيَّةٍ بين المكاتب والمصارف والأسواق؛ لتزيد عذابًا من لا يمتلك سوى تفاليس الدنانير، ومع ذلك سترى الغني والفقير يستويان في عذابات الواقع، والخوف من المستقبل.

إقرأ أيضاً: في بيتنا الذكاء الاصطناعي

صار الألم يزداد عندي، عندما أدركت بأن العراقي يحيا حياته كلها بألم الجوع والقمع والظلم، وأن يحيا وكأنه ميت، حيث تنطفئ روحه إلى الأبد، وينعدم الشغف بالحياة، وتموت الرغبة والإحساس في القلب. والأقسى أن نجده يبحث عن وطنه، فلا يحصل على سكن في حياته، ولا كفن في مماته. وطن كان يحلم أن يموت من أجله، وإذا به يموت على يده !! سئل الفيلسوف جان جاك روسو ما الوطن؟ فأجاب: الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مُواطِن من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مُواطِن آخر، ولا يبلغ فيه مُواطِن من الفقر ما يجعله مضطرًا أن يبيع نفسه وكرامته.

اكتشفت حقائق عديدة من الحياة الميدانية بعد عودتي للوطن. فالوطن ليس هو المكان فقط؛ ولكنه الكرامة والعدالة والحرية والأمن والأمان؛ حيث يكون المرء في خير وطمأنينة وسلام واحترام. ومع ذلك فأن قرار العودة للوطن يحتمل الصواب والخطأ، فإذا كنت ترى أن العودة له يرتبط بظروفك وتقديراتك؛ فأنت على حق، كذلك الآخر الذي يرى الوطن جنة "حتى نارك جنة"؛ فهو الآخر على صواب.

إقرأ أيضاً: حيّ الصرخة الأولى

وإذا كنت وطنيًّا مثلي، وتشعر بكآبة (الجنة) التي تعيشها في غربتك، وتشتاق للتشريب والكباب والباجة والباميا واليابسة، والتلذُّذ بفلسفة العذاب والأزمات، والطرب على أصوات مفرقعات الرصاص، والنحيب على الأموات، والبوذيَّات الحزينة، فأهلًا وسهلًا بك في وطنك الذي يشترط عليك إلغاء ضميرك؛ لكي تعيش حرًّا طليقًا في غرف الإنعاش والعناية المُركَّزة.

وتذكر أنك سوف تعيش بين ناس أزهقت الماديات أرواحهم، وشوَّهت حياتهم، وسلبت منهم طاقاتِهم الإيجابية، وجمال قيمهم. وستجد أهلك يأكلُ بعضهم بعضًا بالمال الحرام والنفاق ونميمة القيل والقال، ويغيب في سلوكهم الاجتماعي الرقي والتحضُّر.صاروا لا يُشبهون أهل وطنك الأصلي؛ لا منزلها منزلك، ولا أهلها أهلك، ولا جيرانها جيرانك. وإذ اكتشفوا بأنك عائد من غربتك سيصرخون في وجهك بسخرية: انتهت حياتك أيها المجنون؟!!