ولدتُ من أبٍ بغدادي عريق متوسط الحال، وأمٍّ من عائلة موصلية عريقة وثرية. كانت الصرخة الأولى في منطقة الفضل ببغداد أواخر الأربعينيات، حيث تقع في جانب قضاء (الرصافة) الذي أنشأه أبو جعفر المنصور - رحمه الله - في الجانب الشرقي من دجلة؛ وهو حي شعبي بغدادي قديم، يقع بين أحياء "خان لاوند" و"البارودية" و"حمام المالح".
يبدأ الحي من الباب المعظم، وهو أحد أبواب بغداد في عصر الدولة العثمانية إلى الباب الشرقي، وهو يزخر بمناطق وجوامع تاريخية قديمة، وبأزقة ضيقة "داربين" بطريقة حلزونية متداخلة ومتلاصقة لا تنفك ولا تنفذ إلى غيرها، ولتشكل مجموعة من الدور المتلاصقة والصغيرة التي تعد بالعشرات حتى تصل المئة دار ومن عدة داربين، حيث تتكون المحلة الواحدة، كما يقول عبد الكريم العلاف في كتابه (بغداد القديمة).
كان الحي زاخرًا بالحياة والأحداث والتناقضات، وجمال العلاقات الاجتماعية. فقد وُلدتُ بمواجهة حياة اجتماعية أسَّسها المكان والبشر متحركيْن متمازجيْن متعاطفيْن؛ حيث لعبتُ في أزقته، وحول أسواقه الشعبية، وداخل حاراته الضيِّقة، وكان يُوجد سطحٌ أمام كل منزل من منازلها، يستلقي عليه أصحاب المنزل مستجيرين من لفحات فصل الصيف القاسية، وكانت الجدران بكاملها مطليَّة بالكلس من الخارج، ونوافذ المنازل تفتح درفتها إلى الداخل.
ومنطقة الفضل، مثل سائر المحلات البغدادية، تتميز بطرازها البغدادي القديم. وتقاليدها وعاداتها التقليدية، حيث كُتب عليها أن تكون شاهداّ على أحداث تاريخية كثيرة، ومعالم رمزية كشارع الملك غازي وساحة الوثبة وقنبر على وأبو سيفين والسباع وباب الشيخ وغيره. كما شهدت على أحداث وطنية لمقاومة الإنكليز والاحتلال الأميركي.
ما يُثير الدهشة في هذا الحي، هو تجميعُه لخُلاصات تجارب حياتية ومعرفية؛ وتوطينُه للمزارات والمدارس الدينية والمنهج الصوفي، ففيه (تكية آل الشيخ قمر) وظهور الطريقة النقشبندية ومشايخها الكبار، كما كان أحد المناطق المهمة لظهور أبرز قراء القرآن الكريم.
خرج من هذا الحيّ كبار العلماء والمثقفين والعسكريين وقادة السياسة؛ عبد الوهاب النائب؛ الكاتب والفقيه، والأَخَوَان: طه وياسين الهاشمي؛ اللذيْن كانا من مؤسسي الجيش العراقي؛ حيث تولَّى كلٌّ منهما منصب رئيس الوزراء، ومثلهما رفيقهما السياسي البارز خليل كنة البياتي؛ الذي شغل منصب رئيس مجلس النواب العراقي عام 1957 في العهد الملكي ومنصب وزير المعارف والمالية، والعقيد: كامل شبيب؛ أحد قادة انقلاب سنة1941.
وهناك كذلك نشأ فهمي عبد الرحمن المدرس الذي رَأَسَ الديوانَ الملكي في عهد فيصل الأول، أيضًا الشاعر والأديب الأريب: عبد الكريم العلاف، والمحامي اللامع: عبد الرزاق الشبيب؛ الذي تولَّى رئاسةَ نقابة المُحامين العراقيين. وهناك المئات من الأسماء البارزة التي كانت فاعلة في تاريخ العراق.
وظهرت أول مدرسة ابتدائية في العصر العثماني في هذا الحي القديم، كما أشتهر برياضة تسمى "الزرخانة “وناديه الذي تخرج منه كبار المصارعين، وأبرزهم عباس الديك والحاج محمد بن إبرسيم رئيس المصارعين في العراق. مثلما اشتهر بأنه كان المنجم لمطربي المقام العراقي أبرزهم يوسف عمر وناظم الغزالي وغيرهم.
كان هذا الحي العريق يجمع البشر من كل الأجناس والأقوام والطوائف والأديان؛ فتجد فيه كل العشائر العراقية مجتمعة به: العزة، والعبيد، والقيسي، والقرغولي، والبيات، والطي، والزبيد، والهواشم، والعنبكية.. وغيرهم. تجد الموظفَ متوسطَ الحال، والعاملَ الكادحَ، والفقيرَ المُعدَم، والشيوعيَّ الملتزم، والبَعثيَّ المُطارَد، والقوميَّ الناصري. وهناك تجد كذلك العربي والكردي والتركماني، وتجد ديانة المسلم والمسيحي والصابئي واليهودي!
ترى المسيحي يحلف بالعباس والحسين! والمسلم يشارك المسيحي أعياده وطقوسه! ليس هناك نَعراتٌ مُتطرّفة، وتعصبٌ أعمى، يُعكّر صفوَ التضامنِ الاجتماعي، أو يُضعِف من تآلف القلوب على المِحن والمصائب.
إقرأ أيضاً: الكتابة بالومضة الصحفيّة
كنا كلنا نلعب في الحي، وكأننا من دار واحدة! لم يُعلِّمنا أحدٌ من الوالديْن التنابُزَ بالألقاب، أو التباهي بقوميتنا، أو التعصب لطائفتنا. كما أنني لا أتذكر أبدًا أنه في يومٍ من الأيام قد حدثت فيه خصومة على هذه الأمور؛ أو نشبت معركةٌ ما؛ لأنها أصلًا خارج حدود معرفتنا، وغير مبرمجة في نظام تفكيرنا.
كنا نحتفل بالطقوس الدينية المختلفة، ونأكل الزردة والقيمة معًا، ولانعرف أسرارها، ولمَن يعودُ عرفُها؟ سوى أنها مناسَبةٌ للجميع، كان أهل الحي في أعلى تناغمٍ وائتلاف، رغم أن المذاهب والقوميات والأديان فيها ما فيها من شِقاقٍ واختلاف.
ذات مرة، سألت والدي عن سر الدخول المستمر للشرطة والأمن إلى حيِّنا؛ حي الرصافة، وهم مدجَّجون بالسلاح؛ حيث يُثيرون الرعبَ بين الأهالي -خاصة الأطفال-؛ وكان رد أبي دبلوماسيًّا، ويتوافق مع رغباتي واتجاهاتي النفسية: هؤلاء يبحثون عن اللصوص والأشقياء؛ لكنني بعد زمن عرفت بأن الحي كان بمثابة أوكارٍ متناثرة للأحزاب السياسية، وملاذٍ آمنٍ لأعضاء الأحزاب الذين كانوا مطلوبين للسلطة.
إقرأ أيضاً: حياتنا من خشب
وما بين ماضي الأحياء البغدادية وحاضرها قصةٌ مُؤلمة، فالحي في هذا الزمان قد فقد رونقَه البسيط، وجمالَه الاجتماعي، وذاكرتَه التاريخية؛ بينما كان الحي القديم يشتعُل بالتضامن الاجتماعي، والمحبة المثيرة للدهشة.
كنا عائلةً واحدةً لا تفرقنا تفاهاتُ الطوائف والقوميات والأديان. وكان العراق (الواحد) يحرسنا في نومنا، وهو يُهَمْهِمُ بصوتِ الأمهات الحنون: "دللول يا الولد يا ابني دللول / يمه عدوك عليل وساكن الجول" !!!
التعليقات