السؤال الأخطر، برأيي، في مشهد التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط هو: ماذا بعد الهجوم الإسرائيلي ضد إيران، والذي بات شبه مؤكد؟ وكيف سيؤثر هذا الهجوم المرتقب على استقرار النظام الإيراني؟ هذه الأسئلة وغيرها بالتأكيد هي موضع دراسة معمقة من الدوائر السياسية والأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية، وكذلك الإقليمية والدولية، لأسباب واعتبارات عدة، أهمها على الإطلاق حالة الاستنفار القصوى التي وصلت إليها العلاقات بين إيران ودولة إسرائيل، فضلاً عن استشعار الأخيرة أنها أمام فرصة تاريخية لن تتكرر لإنهاء مصادر التهديد التي تتعرض لها منذ سنوات طويلة.

في مناقشة هذا الموضوع هناك نقاط عدة حيوية في مقدمتها مدى جدية سيناريو الهجوم الاسرائيلي المتوقع ضد إيران، وهنا يمكن الاشارة إلى أن السيناريو قد انتقل هذه المرة من طور التهديد والتفكير بل ومن التخطيط العملياتي والقرار السياسي إلى مربع تحديد توقيت التنفيذ، وفي هذا الإطار وفرت المكالمة الهاتفية التي جرت مؤخراً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والرئيس الأميركي جو بايدن مؤشرات نوعية كافية على حسم موضوع الضربة وأن النقاشات باتت تتركز حول الأهداف الإسرائيلية المحتملة ومحاولة الموائمة بين حسابات دولة إسرائيل في هذا الشأن وحسابات الإدارة الأميركية، وهي النقطة الأكثر تعقيداً في الموضوع برمته، لأن وجهات النظر قد تبدو متباعدة إلى حد كبير.

مكالمة بايدن ـ نتانياهو جاءت بعد فترة من الانقطاع وعدم التواصل المباشر منذ أغسطس الماضي، رغم سخونة الأحداث، حتى أن الرئيس الأميركي اتصل هاتفيا بالرئيس الإسرائيلي اسحاق هرتسوغ بدلاً من نتانياهو لتقديم التعازي في الذكرى السنوية الأولى للهجوم الذي شنته مليشيا حماس الإرهابية ضد دولة وشعب إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، ما يعني أن هذا الاتصال المباشر في توقيته الراهن جاء لحسم قرار كبير وليس هناك في هذه الظروف أكبر أو أخطر من قرار توجيه ضربة إسرائيلية ضد إيران، وفي هذا الإطار قال الرئيس بايدن علناً إن إسرائيل لا ينبغي أن تستهدف المواقع النووية الإيرانية، وقدم مشورة علنية بعدم ضرب منشآتها النفطية، لكنه أكد أن الحليفين في تنسيق مستمر حول الرد المناسب، ما يوحي بأن هناك خلافاً حول الأهداف المحتملة، وأن بايدن لا يريد الايحاء بأن الولايات المتحدة منحت إسرائيل ضوء أخضر لاستهداف المنشآت النووية الايرانية، وأن تصريحه في هذا الشأن هو وسيلة من وسائل الضغط على نتانياهو للعدول عن أي تفكير في هذا الاتجاه، ولكن إلى أي مدى يمكن أن يؤثر الضغط الأميركي في هذه البيئة الاستراتيجية المعقدة؟

بلاشك أن تحفظ الرئيس بايدن على قصف المنشآت النووية الإيرانية ينطلق من حسابات سياسية وتكتيكية وشخصية تتعلق بالانتخابات الأميركية وشيكة الانعقاد، حيث يخشى اندلاع حرب شاملة بين إيران ودولة إسرائيل ما يضطر الولايات المتحدة إلى المشاركة تنفيذاً لالتزامها الراسخ بدعم دولة إسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات لا تصب في مصلحة مرشحة الحزب الديمقراطية كاميلا هاريس، فضلاً عن أن بايدن نفسه يخشى أن تؤدي الضربة إلى وقوع ضحايا مدنيين إسرائيليين كثر جراء رد إيران وأذرعها على الهجوم الإسرائيلي، وهو ما يضعه في موقف حرج للغاية في نهاية رحلته الرئاسية والسياسية.

تحليل عواقب الهجوم الإسرائيلي المرتقب وتداعياته تتوقف بالأساس على سقف هذا الهجوم وحدوده، ومن الصعب للغاية بناء تقديرات/ تصورات واقعية بشأن اليوم التالي لهذا الهجوم، لأن إيران لن تنفذ الضربة الثانية بشكل تلقائي أو سريع كما هو معتاد في الصراعات من هذا النوع وفي ظل استعداد الطرفين وجاهزيتهما لكافة الاحتمالات، بل المتوقع ـ في ضوء سلوكها المعتاد والثقافة الحاكمة للنخبة الإيرانية الحاكمة ـ أن تتم دراسة الرد بشكل هادىء ووفقاً لاعتبارات متداخلة أهمها تفادي توسيع نطاق الصراع في حال كان الهجوم الإسرائيلي محدوداً أو ضعيف التأثير أو حتى يندرج ضمن الخسائر "المقبولة" بالنسبة للنظام الإيراني الذي يجري في كل حالة مشابهة حسابات معقدة تتمحور في أغلبها حول مصير النظام والخوف من إنهياره ومشروعه التوسعي، وبالتالي فإن أدوات هذا المشروع وركائزه هي الفيصل في أي قرر رد إيراني محتمل، بمعنى أن التركيز على الوسائل وليس على الأشخاص، حيث لا تأثير لأعداد الضحايا ـ مهما كان ثقلهم أو مناصبهم ـ ضمن حسابات إيران في هذا الموقف، والعبرة تكون بتأثير الضربة الإسرائيلية على استقرار النظام الإيراني.

وكي نتمسك بنهجنا الواقعي بعيداً عن فكرة التحليل بالتمني، فإن الربط بين أي هجوم إسرائيلي محتمل ضد إيران وسقوط النظام الايراني او حتى تهيئة الظروف والعوامل اللازمة لسقوطه من خلال ضغط شعبي جاهز بالفعل، قد يكون هذا من باب التصورات المستبعدة نسبياً لأن النظام الإيراني قادر على توظيف الأجواء في استثارة الكرامة الوطنية ودغدغة مشاعر الايرانيين حتى من غير المؤيدين له، بل واستغلال الوضع في القفز على الإشكاليات الداخلية المتزايدة، ومواصلة العزف على وتر "المقاومة" والترويج لشعاراته المرتبطة بالعداء لإسرائيل والولايات المتحدة.

هناك قيادات إسرائيلية تتحدث عن ضرورة استغلال أي ضربة في اسقاط النظام الإيراني وأن هناك فرصة قائمة لذلك لا تلوح سوى نادراً، ولكني اعتقد أن التركيز الأساسي لحكومة نتانياهو ينصب على تدجين النظام الإيراني وانهاء مشروعه التوسعي الاقليمي من خلال القضاء على أذرعه الميلشياوية الإرهابية أو على الأقل إضعاف قدرتها على تهديد دولة إسرائيل وشعبها تماماً، وهو ما يبدو واضحاً من خلال العمليات التي ينفذها الجيش الاسرائيلي في جنوب لبنان، وبالتالي فالتخطيط لا ينصب على اسقاط النظام الإيراني من عدمه، لسبب أساسي هو أن دولة إسرائيل لا ترغب بخوض حرب شاملة ضد إيران بل في كبح جماحها وشل قدرتها على توجيه ضربات ضد دولة إسرائيل سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

قناعتي أن عنصر الحسم في توقيت وحدود تنفيذ القرار الإسرائيلي مرهون بعاملين مهمين للغاية أولهما حدود الدعم الأميركي لهذا القرار؛ فبغض النظر عن موقف إدارة بايدن المعلن فإن أي قرار ستتخذه حكومة نتانياهو سيحظى في النهاية بدعم أميركي مهما كان مواكباً أو مغايراً للرغبة الأميركية المعلنة، وبالتالي فإن التنسيق بين الطرفين هو خيار الضرورة الذي لا فكاك منه، ولكن يجب التأكيد على أن أي قرار إسرائيلي لن ينفذ سوى بعد استيفاء الضمانات الكاملة للتعامل مع أي رد إيراني ودراسة أسوأ السيناريوهات بما فيها اندلاع حرب شاملة، والعامل الثاني هو مدى دقة المعلومات المتوافرة لدى أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والغربية حول القدرات النووية الايرانية الفعلية، ومدى قدرة إيران على تسريع وتيرة إنتاج سلاح نووي في غضون فترة وجيزة للرد على دولة إسرائيل، هذا إن لم يكن هذا السلاح موجود لديها بالفعل الآن.

الواقع يقول أن قيام إيران بتنفيذ هجومين مباشرين حتى الآن ضد إسرائيل قد كسر وأطلق مرحلة جديدة، وانهى جزئياً مسألة الاعتماد الكامل على استراتيجية الحرب بالوكالة التي ظل يراهن عليها النظام الإيراني منذ قيامه، وبالتالي فإن جميع الخيارات والسيناريوهات والاحتمالات تبدو قائمة ومفتوحة.