تُعد الدبلوماسية إحدى أدوات القوة الناعمة لأي دولة، حيث تُستخدم للترويج لقيمها وثقافتها وأفكارها وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية. ومع التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم، أصبح العمل الدبلوماسي أكثر اعتماداً على التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال الرقمية، ما أدى إلى بروز مفهوم "الدبلوماسية الرقمية" كأداة فعالة ومرنة لتنفيذ السياسات الخارجية للدول.

شهدت الدبلوماسية التقليدية نقلة نوعية مع ظهور الوسائل الرقمية، حيث بات بإمكان الدول إيصال رسائلها وسياساتها بسرعة وشفافية، مع تقليل التكاليف وتجاوز الحواجز التقليدية. ومن خلال منصات التواصل الاجتماعي، أصبح بالإمكان عقد الاجتماعات والمفاوضات عن بُعد، مما وفر الوقت والجهد على الدبلوماسيين. إلا أن نجاح هذا النوع من العمل يتطلب معرفة دقيقة بوسائل التواصل الاجتماعي وآليات استخدامها بفاعلية لتحقيق الأهداف الوطنية.

تُعد بريطانيا نموذجاً رائداً في تبني "الدبلوماسية الرقمية"، إذ استطاعت توظيف هذه الأدوات بشكل متميز لتصبح في طليعة الدول المؤثرة عالمياً في هذا المجال. ووفقاً لتقرير الدبلوماسية الرقمية لعام 2016، احتلت بريطانيا المركز الأول عالمياً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لخدمة أهدافها الدبلوماسية. وقد أنشأت حسابات رسمية بلغات متعددة، منها اللغة العربية، مثل حساب المتحدث باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحساب وزارة الخارجية البريطانية، إضافة إلى حسابات القنصليات والسفارات المختلفة.

من أبرز الأمثلة على نجاح بريطانيا في هذا المجال، تجربة السفير البريطاني السابق في القاهرة، جون كاسن، الذي جذب حوالى 3 ملايين متابع عبر تويتر بأسلوبه البسيط والقريب من الجمهور. كان كاسن حريصاً على التفاعل مع القضايا التي تهم المصريين، مستخدماً لغة عفوية في تغريداته، مثل رده على اللاعب المصري محمد صلاح عندما طلب تصويت الشعب المصري له، قائلاً: "بس كدة إنت تؤمر يا أبو صلاح". كما ظهر السفير البريطاني في الجزائر في فيديو يهنئ فيه المسلمين بحلول شهر رمضان، متحدثاً باللغة العربية، ما ترك انطباعاً إيجابياً لدى الجمهور.

لا يقتصر دور الدبلوماسية الرقمية على التفاعل الثقافي أو تحسين صورة الدول فقط، بل يمتد إلى إدارة الأزمات والتحديات الدولية. فقد استخدمت بريطانيا هذه الأدوات بفاعلية خلال أزمتي خروجها من الاتحاد الأوروبي وجائحة كوفيد - 19، حيث تمكنت من الحفاظ على مكانتها الدولية وإدارة علاقاتها مع الشركاء الاستراتيجيين بكفاءة.

ما يميز التجربة البريطانية هو إدماج الدبلوماسية الرقمية ضمن استراتيجيات شاملة. تُولي وزارة الثقافة والإعلام والرياضة أهمية كبيرة لتطوير استراتيجيات رقمية متكاملة، وتدعو جميع المؤسسات الثقافية إلى تبني هذه الاستراتيجيات بما يتماشى مع رؤاها وأهدافها العامة. هذا النهج يجعل من بريطانيا دولة رائدة في استخدام الأدوات الرقمية لتعزيز قوتها الناعمة وتوسيع نطاق تأثيرها الدولي.

إقرأ أيضاً: من مشهد إلى مشهد.. سوريا تعود من بوابة الرياض

وفي سياق هذه التجربة الرائدة، يمكن للمملكة العربية السعودية الاستفادة من النموذج البريطاني لتطوير أدواتها في مجال الدبلوماسية الرقمية. تتمتع المملكة بمقومات كبيرة تؤهلها لتكون رائدة في هذا المجال، خاصة في ظل التحول الرقمي الذي تشهده ضمن رؤية السعودية 2030. يمكن للسعودية تبني استراتيجيات رقمية تُركز على إنشاء منصات تواصل متعددة اللغات تخاطب الجمهور العالمي مباشرة بأسلوب بسيط وتفاعلي يعزز من قربها للشعوب الأخرى. كما يمكن تدريب الكوادر الدبلوماسية على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكفاءة لضمان إيصال الرسائل السياسية والثقافية بشكل احترافي.

إلى جانب ذلك، يمكن للمملكة الاستفادة من الأدوات الرقمية لإدارة الأزمات والتحديات العالمية بشكل أكثر فاعلية، مما يعزز من مكانتها كشريك موثوق على الساحة الدولية. كما يُمكنها توظيف هذه الأدوات للترويج لتراثها الثقافي الفريد، وبناء جسور تواصل فعالة مع شعوب العالم، بما يبرز قيمها ويعزز صورتها الإيجابية.

إقرأ أيضاً: الدبلوماسية الرقمية.. رؤية مستقبلية للسعودية في عصر الذكاء الاصطناعي

السعودية، بفضل بنيتها التحتية الرقمية المتطورة وخبرتها في إدارة المبادرات العالمية، تمتلك الفرصة لتوظيف الدبلوماسية الرقمية كأداة استراتيجية تحقق أهدافها الوطنية وتعزز مكانتها الدولية. التجربة البريطانية في هذا المجال تُظهر أن الاستخدام المبتكر للأدوات الرقمية يمكن أن يجعل الدول أكثر تأثيراً على المسرح العالمي، مما يفتح المجال أمام المملكة لتكون نموذجاً عالمياً في الدبلوماسية الرقمية. السؤال الذي يبقى.. كيف يمكن للمملكة أن تُطور نموذجاً خاصً بها يجمع بين أصالتها وطموحاتها المستقبلية لتعزيز قوتها الناعمة؟