عندما يتبوّأ التفكير المنطقي موقعه المناسب حيال قضيةٍ جوهرية لِمَلّة من الملل عوضاً عن الآليات العاطفية التي يتم التعويل عليها، حينها فبلا أيّ انحيازٍ أو مواربة سيقول المنطق: إن القضية التي لم يتم إيجاد حلٍ عادلٍ ومنصفٍ لها خلال 40 سنة، من شبه المستحيل حلّها في بضعة أشهر، بل وستزداد شكوك المنطقيين والأحرار فكرياً في السعي المحموم للمتلهّثين خلف عقد الاتفاقيات الشفوية والبعيدة عن التوثيق والشفافية، خصوصاً وأن الجهات المتلهّفة للحلول الصورية كانت على مدار سنوات طويلة تعمل بلا هوادة على وأد السلام وتتملّص من أيّ فرصة للانفراج السياسي، وكانت ترجّح على الدوام كفّة الحرب وتناهض الحقوق المشروعة لأصحاب تلك القضية؛ لذا فإن هبط على تلك الجهة فجأةً وحيُ تقبّل الآخر والرغبة بفتح قنوات التواصل الإيجابي معه، فسيتصوّر المبصر بأن الجهة تلك ربما تخشى من حدوث ما هو أعظم من أثر غاراتها المتكرّرة على معاقل مَن كانت حتى الأمس تعاديهم وتحاربهم بكل السُبُل.
ما يعني أنّ انحيازها اليوم لشيءٍ كانت ترفضه بالمطلق في الأمس، هو ليس بالضرورة نابعاً من إيمانها بما تخطو نحوه، إنما لعلّها تمضي في الاتجاه الحالي ليس حباً به إنما لدرء ما تتوقع بأنّه أسوأ منه، لذا خطواتك المهرولة ـ كأحد قطبي هذا الماراثون ـ مع ركض رغبات الآخر قد لا تُكلّل بالنجاح الذي تتصوّره وتعدّه التكتيك المناسب للمرحلة، إنما على الأغلب سيكون جريك متجهاً بلا هوادة صوب تحقيق هدفه الاستراتيجي؛ لأنّ السلام الحقيقي لا يتم من دون بيئة ملائمة، ولا ينجح من دون تهيئة المناخ المناسب، ومن دون بطلان حجج وذرائع العدوان، ومن دون تعديل الخطاب الإعلامي البغيض، ومن دون إبعاد هواجس الاستعلاء والفوقية والاختيال المنفّر لدى الأطراف الداعية للاتفاق والانسجام، ومن دون سحب كل الأدوات المهيّأة للتفجير من ميدان الوئام المنشود من قِبل المعنيين بالسلام، وذلك تأكيداً لما يشير إليه البروفسور جاستون بوتول عن أجواء السلام بقوله إن: "السِّلم شيء سريع العطب تماماً مثل الصحة، فهو بحاجة إلى كثير من الظروف الملائمة والإرادات الحسنة المتضافرة".
وبخصوص من ينطرب بكُلّه لمطالب الآخر ويستجيب بسرعة البرق لدعوته إلى فتح صفحة جديدة تختلف كلياً عن صفحات الماضي المعتم، ويُبدي كامل استعداده للألفة والتقارب من دون أن يعبّر المطالِب بالتغيير عن مشاعره الحقيقية، إنما بدلاً من عبارات الود والألفة ما يزال يعتمد على سياسة الترغيب والترهيب في خطابه اليومي، يقول رئيس المؤسسة العربية للعلوم النفسية ورئيس مجلس أمناء مؤسسة "توكيل النفوس" العلمية الدكتور أحمد هارون عن الذين يقعون في شراك الهوى بكل مشاعرهم من دون أن يظهر الطرف المقابل أيَّ شعور مماثل: "إن الحب المشروط من الطرف الآخر مُمْرِض واسمه التشرّط.. أو التحكم.. أو السيطرة".
حقيقةً فما يحصل في وادي الغرام وبين سكانه في هذا الصدد ينسحب أيضاً على الأطراف السياسية التي تخطو عشرات الخطوات نحو جهة ما، بينما لا تُبدي الجهة الأخرى أي حركة فعلية نحو الطرف المتسارع بالخطو نحوها، بل وكلما تحمّس الطرف المبادر وتخلّى عن ركائزه ترى الآخر يعامله بكامل الاستعلاء وهو يستمرّ باستغلال الطرف الذي يقدّم التنازل تلو التنازل؛ فهذا المشهد يدعو المراقِب المنصف للانزعاج الضمني من الطرف الذي لديه الاستعداد للتخلّي عن أعظم ما لديه مقابل عدم تصرّف الآخر مثل ما يبادر إليه، إنما لا يبدي قط أي حراكٍ يشي بأنّه سيبادله في المشي ولو ربع ما أقدم عليه في ميدان حسن النية والدنو من ملتقى الحلول.
إذ من لحظة اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان وخطابه يميل للتنازل ويُسرف في المبادرة والهرولة نحو السلام المزعوم من غير أن يتقدّم الآخر المعني بالعملية مثله ولو خطوة جدية واحدة، إنما كل ما يتفوه به الآخر هو كلام إعلامي خلبي لا يمتّ للحقيقة بصلة، ولا يقترب من أرض الواقع بما هو عملي وملموس، ويكاد يكون وضع الاتفاق الحالي بينهما أشبه بعقود الإذعان.
وحيال الاستعجال في تلبية مطالب الآخرين والتعجيل في المبادرات الأحادية الجانب من دون التفكير بعواقبها، يطيب لي إيراد قصة الخفّاش والنبي سليمان التي ذكرها بتصرّف الشاعر الراحل عثمان صبري:
"يُحكى أنَّ النبي سليمان عندما أتى ببلقيس لتغدو زوجةً له، طلبت منه بلقيس أن يصنع لها فراشاً من ريش الطيور، فدعا النبي سليمان جميع الطيور إلى الاجتماع بين يديه وقال للطيور: "يجب أن تنزعوا أرياشكم لتصنعوا منها فراشاً لبلقيس!".
وفي الحال وبدون أي استفسارٍ أو اعتراضٍ أو تفكير تقدّم الخفّاش ونزع ريشه بسرعة وغادر.
إلا أنَّ الطيور الأخرى رأت أن الأمر ليس مناسباً لها، وقالت فيما يشبه الاعتراض على قراره: "يا نبي الله سليمان، أليس مجحفاً بحقنا هذا الأمر الذي تودّ منا تنفيذه من خلال نزع أرياشنا جميعاً كرمى زوجتك؟ فكيف سنقضي شتاءنا بلا ريش إذن؟ بينما هذه الأرياش هي التي تحمي أرواحنا من البرد".
عندئذٍ رأى النبي سليمان أنهم على حق، لذا تركهم أحراراً، ولكن الخفاش كان قد تسرّع في تنفيذ قرار سليمان ونزع ريشه، ومنذ ذلك اليوم، يخجل الخفّاش من الظهور نهاراً بين الأصدقاء والأحبة، لذلك يخرج ليلاً".
ولا شك في أن الزعيم أو القطب الذي يتمّ استثمار دوره منذ بضعة أشهر بإتقان وحرفية عالية، ويُستعان به في هذه المرحلة المفصلية، فالغرض الأبرز من حصر التنظيم به وجعله الآمر والناهي هو الاستفادة لأقصى حد من قوة تأثيره على الحشد الذي يتبعه ويؤمن بعظمة شأنه، ولا يتمّ اللجوء إليه في هذا الإطار حباً به، ولا إقراراً بأهميته السياسية، ولا تقديراً لفكره، ولا اعترافاً بنضاله، إنما يتم اللجوء إليه بكونه ما يزال محط تقدير لدى أنصاره ولديه جيش من الأتباع، وطالما كان لدى مسلحيه قدرات قتالية أو عسكرية؛ ولكن إذا ما تمّ انتزاع السلاح منهم دون بدائل مناسبة، وعندما تُشل القدرات القتالية لديهم دون إعطائهم ساحات مدنية بسوية التي تخلّوا عنها، وعندما يتمّ تشتيت شملهم وتفكيك منظومتهم السياسية والعسكرية دون أي ضمانات، فعندها على الأغلب لن يكون مصير القطب ومن في حكمه أفضل من مصير الكائن الذي تحدّث عن كارثية تسرّعه الشاعر الكردي الراحل عثمان صبري.























التعليقات