لا يمثّل يوم 7 كانون الأوّل (ديسمبر) في إيران مجرّد مناسبة طلابية عادية، بل هو سجلّ تاريخي يجمع بين دكتاتوريتين تعاقبتا على البلاد: ملكية الشاه المطلقة، واستبداد نظام ولاية الفقيه الديني. كلا النظامين، عندما واجه الجامعة، لم يعرف سوى لغة واحدة: الرصاص، الطرد، السجن والإعدام.

تبدأ الحكاية في 7 كانون الأوّل (ديسمبر) 1953. بعد أقلّ من أربعة أشهر على الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا ضد حكومة الدكتور محمد مصدّق، كانت سلطة الشاه تحاول "تطبيع" الأوضاع باستقبال نائب الرئيس الأميركي آنذاك ريتشارد نيكسون وإعادة العلاقات مع لندن. طلاب جامعة طهران، ولا سيما في كلية الهندسة، خرجوا احتجاجاً على هذه الخطوة، فاقتحمت قوات الأمن الحرم الجامعي. في ذلك اليوم قُتل ثلاثة طلاب هم مصطفى بزرگ نيا، أحمد قندچي ومهدي شريعت رضوي برصاص الجنود داخل القاعات، ومنذ ذلك الحين سُجّل 7 كانون الأوّل بوصفه "يوم الطالب" الممهور بالدم.

لكن مأساة الجامعة لم تنتهِ بسقوط الشاه عام 1979. مع استقرار نظام ولاية الفقيه، تحوّلت الجامعة سريعاً إلى الهدف الأول لما سمّاه الحكّام الجدد "الثورة الثقافية". بين 1980 و1983 أُغلِقت الجامعات في كل أنحاء البلاد، ليس من أجل تطوير علمي، بل بهدف "تطهيرها" من الأساتذة والطلاب المعارضين وإعادة صياغة المناهج وفق الأيديولوجيا الرسمية. آلاف الأساتذة والطلاب جرى طردهم أو إقصاؤهم بسبب آرائهم السياسية أو الدينية أو حتى أسلوب حياتهم، وأصبحت لجان "التحقيق العقائدي" تشترط الولاء للمرشد ولمبدأ ولاية الفقيه لمواصلة الدراسة أو التدريس.

خلال العقود التالية، استمر هذا النهج بأشكال مختلفة. في تموز (يوليو) 1999 تحوّل احتجاج طلابي على إغلاق صحيفة إصلاحية إلى انتفاضة جامعية واسعة قوبلت بالهجوم على مساكن الطلاب واعتقال المئات. في عام 2009 لعبت الجامعات دوراً محورياً في "الحركة الخضراء"، فكان نصيب الطلاب مزيداً من الملاحقات الأمنية وفصل النشطاء من الدراسة.

الذروة الجديدة جاءت في خريف 2022 مع اندلاع موجة احتجاجات واسعة بعد مقتل مهسا أميني في مقر شرطة الأخلاق. الجامعات في طهران ومدن أخرى أصبحت مركزاً رئيسياً للتظاهرات والإضرابات، وامتدت الحركة الطلابية إلى أكثر من مئة جامعة في أنحاء البلاد. في تلك المرحلة برز الشعار الثلاثي الذي ردّده كثيرون "المرأة، الحياة، الحرية" كعنوان للغضب الشعبي على قمع النساء وعموم المجتمع.

لكن مع مرور الوقت، بدأ النظام نفسه يحاول الالتفاف على هذا الشعار واستخدامه في حملات دعائية وتجميلية، عبر تفريغه من مضمونه الاحتجاجي وربطه بخطاب رسمي عن "حقوق المرأة في إطار القيم الإسلامية". أمام هذا التلاعب، اختارت مجموعات واسعة من الطالبات والطلاب والناشطات أن تدفع خطوة أبعد، فحوّلت الشعار في مظاهراتها وكتاباتها إلى صيغة أكثر وضوحاً في الموقف السياسي: "المرأة، المقاومة، الحرية". بهذه الصيغة الجديدة، جرى الربط صراحة بين حرية المرأة وخيار المقاومة المنظمة في مواجهة الاستبداد الديني، لا مجرّد المطالبة العامة بـ"الحياة" تحت سقف النظام.

وفق مركز حقوق الإنسان في إيران ومنظمات أكاديمية دولية، حتى منتصف 2023 تم توثيق اعتقال ما لا يقلّ عن 700 طالب على خلفية الاحتجاجات، إضافة إلى مئات حالات التعليق والفصل من الجامعات والحرمان من السكن الجامعي والنفي الداخلي إلى فروع بعيدة. عشرات الأساتذة الذين تضامنوا مع الطلاب أو انتقدوا القمع تعرّضوا للطرد أو التقاعد الإجباري أو منع التدريس. تقارير عن حرية الجامعات تشير إلى أن الجامعة الإيرانية تعيش اليوم واحدة من أشدّ موجات "التطهير الأكاديمي" منذ الثمانينات.

في آب (أغسطس) 2023 نشرت صحيفة "اعتماد" الإصلاحية قائمة تضم 157 أستاذاً جامعياً جرى إقصاؤهم عن التدريس بين 2006 و2023 بسبب مواقفهم النقدية أو دفاعهم عن الطلاب. تقارير أخرى، صادرة عن منظمات دولية تُعنى بحرية التعليم العالي، تقول إن أعداد الأساتذة المعاقَبين أو الذين اضطروا إلى مغادرة البلاد في تصاعد مستمر منذ 2022. هكذا يتواصل ما بدأ قبل أكثر من أربعة عقود تحت اسم "الثورة الثقافية" على شكل "ثورة ثقافية ثانية" تستهدف ما تبقّى من استقلال الجامعة.

آلة الإعدام دخلت هي الأخرى إلى المشهد الجامعي. وفق منظمات حقوقية وتقارير إعلامية دولية، أُعدِم حتى الآن ما لا يقل عن 11 إلى 12 شخصاً في قضايا مرتبطة باحتجاجات 2022، في محاكمات اتسمت بسرعة صدور الأحكام والاعتماد على "اعترافات" انتُزعت تحت التعذيب وحرمان المتهمين من المحامين المستقلين. عشرات المتظاهرين الآخرين، وبينهم طلاب وشباب جامعيون، يواجهون أحكاماً قاسية بالسجن الطويل والجلد والنفي الداخلي، فيما وصف مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في إيران بعض هذه الممارسات بأنها قد ترقى إلى "جرائم ضد الإنسانية".

بالتوازي، تتسارع ظاهرة "النفي الصامت" عبر الهجرة الجماعية للطلاب والأساتذة. تقديرات حديثة تشير إلى أن عدد الطلاب الإيرانيين في الخارج تجاوز 100 ألف طالب خلال السنوات الأخيرة، وأن نسبة ملموسة من الكادر الأكاديمي تركت الجامعات تحت ضغط القمع أو الفقر أو فقدان الأمل في أي إصلاح. ما يفترض أن يكون محرّك التنمية والدمقرطة تحوّل عملياً إلى مصنع للمنفيين والسجناء السياسيين.

عشية كل 7 كانون الأوّل (ديسمبر)، يحاول النظام تفريغ هذا اليوم من مضمونه الحقيقي عبر احتفالات رسمية وخطابات جاهزة عن "نضال الطلاب ضد الشاه"، لكن التاريخ الأحدث يربط بين رصاص 7 كانون الأوّل 1953 وهتافات "المرأة، المقاومة، الحرية" في شوارع إيران اليوم. ما دام الطالب في إيران يُواجَه بالطرد والملف الأمني وربما حكم الإعدام لأنه يعترض على الحجاب الإجباري، أو يدافع عن حقوق النساء، أو يندّد بالإعدامات والقمع، فإن 7 كانون الأوّل (ديسمبر) لن يكون مجرّد ذكرى جامدة في التقويم، بل موعداً سنوياً لتذكير الجميع بأن لا ديمقراطية بلا جامعة حرّة، ولا مستقبل لوطن يُكمَّم فيه فم الجيل الذي يُفترض أن يصنع هذا المستقبل.