لا تزال اللغة العربية تقف على مفترق طرق تاريخي لم تشهده بهذا القدر من التعقيد منذ قرون طويلة. فهي تواجه اليوم عالمًا تتغيّر فيه وسائل المعرفة بسرعة مذهلة، وتتحوّل فيه أنماط التفكير والتواصل، ويتراجع فيه حضور القراءة التقليدية لصالح ثقافة الصورة والمحتوى المختصر واللغات الهجينة. ومع ذلك، لا تزال العربية تمتلك من العمق والثراء والقدرة على التجدد ما يجعلها صامدة، بل ومهيّأة للنهضة، شريطة أن تُفهم في سياق التحولات التي نعيشها. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل ما زلنا نعرف لغتنا كما عرفها الأقدمون، أم أننا نفقد تدريجيًا القدرة على التعامل معها بوصفها أداة للتفكير والهوية والمعرفة؟

كان العالم العربي قبل عقود يعيش في بيئة لغوية مختلفة تمامًا عن البيئة الراهنة. فقد كانت العربية الفصحى حاضرة في المدرسة والبيت والشارع والصحافة والكتاب والمسرح. وكانت الجملة العربية الرصينة جزءًا من المشهد اليومي، سواء عبر الإذاعة التي تُدرَّس فيها اللغة بطريقة غير مباشرة، أو عبر المجلات الثقافية التي يتابعها القارئ بشغف، أو عبر خطب الجمعة التي تمثّل منبرًا لغويًا مؤثرًا. لم يكن الناس يشعرون بالغربة أمام الفصحى، بل كانت قريبة من مسامعهم ومنسابة على ألسنتهم، بالرغم من أنهم لم يكونوا يتحدثون بها يوميًا، لكنها كانت لغة المهابة والتعبير الراقي والمعرفة.

إلا أنّ هذا المشهد تغيّر حتى قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة. فقد بدأت العاميات تحتل مساحة أكبر في الإعلام المرئي والمسموع منذ منتصف القرن الماضي، وبدأت الفصحى تُحاصر بالتدريج داخل قاعات الدرس وصفحات الكتب. لكن التحول الحقيقي جاء مع انفجار ثورة الاتصال الرقمي، ودخول الهواتف المحمولة، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أعادت تعريف اللغة ذاتها، لا العربية وحدها. فظهرت لغة مختزلة تتكوّن من رموز وإيموجي وتراكيب إنجليزية ممزوجة بحروف عربية، وصارت ما يُسمّى بـ“العربيزي” لغة جيل كامل لا يتواصل بدونها في العالم الافتراضي. وهكذا بدأت الفجوة تتّسع بين اللغة التي كتب بها الجاحظ والمتنبي وطه حسين، واللغة التي يكتب بها الشباب رسائلهم اليومية.

وبالرغم من أن البعض ينظر إلى هذا التحول بوصفه مؤشرًا على تراجع العربية، فإن الأمر أعقد من ذلك بكثير. فالعربية لم تتراجع في بنيتها أو قدرتها على التعبير، ولم تفقد شيئًا من مرونتها أو قدرتها على الاشتقاق، بل ما تراجع هو حضورها في الفضاء العام. اللغة كائن اجتماعي، ومكانتها لا تُقاس فقط بقواعدها ونحوها وبلاغتها، بل بمقدار استخدامها في الحياة والحوار وفي إنتاج المعرفة. ولهذا فإن السؤال الأهم ليس “هل ضعفت العربية؟” بل “هل ما زلنا نمنحها مكانتها التي تستحقها؟”.

إنّ كثيرًا من أبنائنا اليوم يشعرون بأن العربية صعبة ومعقّدة وبعيدة عن عالمهم، لكن هذا الشعور نتاج منظومة تعليمية لم تتغيّر جذريًا منذ عقود، وطرائق تدريس تعتمد على الحفظ لا على تشغيل العقل، وعلى القواعد المجرّدة لا على التطبيقات الحيّة. كما أنّ التعامل مع اللغة في المدارس كثيرًا ما يُفقد الطالب حبها، إذ تصبح مادة امتحانية لا وسيلة تفكير، وتصبح قواعدها عائقًا بدل أن تكون جسرًا. ولو تغيّر أسلوب تدريس العربية ليصبح أقرب إلى التطبيق والقراءة الحرة، والكتابة الإبداعية، والربط بحياة الجيل الجديد، لتغيّر موقفهم منها جذريًا.

لكن التحول في المشهد اللغوي لا يمكن عزله عن التغيرات الاجتماعية التي شهدتها المنطقة العربية في العقود الأخيرة. فالعولمة الاقتصادية، والانفتاح الثقافي، والهجرات الواسعة، والاستهلاك المتزايد لمنتجات ثقافية أجنبية، كلها عوامل أدّت إلى تراجع الاعتماد على العربية في بعض المجالات الحيوية، خصوصًا التقنية والعلوم. وصارت الإنجليزية، بحكم انتشارها العالمي، لغة المهن الحديثة والتواصل العلمي، مما خلق إحساسًا بأن العربية عاجزة عن استيعاب العلوم الجديدة أو مواكبة التطور. وهذا الإحساس غير صحيح من الناحية اللغوية، لكنه صحيح من الناحية المؤسساتية، لأن الجهود الرسمية في التعريب لم تواكب سرعة الإنتاج العلمي، ولأن الفجوة بين الجامعات العربية ومراكز البحث العالمية ما زالت كبيرة.

ومع ذلك، فإن هناك بارقة أمل كبيرة ظهرت في السنوات الأخيرة، تتمثّل في دخول العربية بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي والبرمجيات اللغوية. فقد باتت الشركات التقنية الكبرى تستثمر في نماذج لغوية قادرة على فهم العربية وتوليدها بدقة متزايدة، وظهرت مبادرات لتطوير معاجم رقمية وبنوك نصوص ضخمة تُسهّل على الباحثين العمل على معالجة اللغة الطبيعية. وهذا يعني أن العربية بدأت تدخل عصرًا جديدًا يمكن أن يمكّنها من أن تكون لغة المستقبل الرقمي، لا لغة الماضي وحده. ولكن نجاح هذا المشروع يتوقف على تفاعل المجتمع والمؤسسات التعليمية والثقافية معه، لا على التطور التقني وحده.

وبالرغم من كل ما سبق، يبقى هناك جانب بالغ الأهمية لا يمكن تجاهله: العربية ليست مجرد لغة للتواصل، بل هي لغة هوية وانتماء وتراث روحي وثقافي. فهي لغة القرآن الكريم، ولغة تاريخ فكري وسياسي وأدبي شكّل معالم الحضارة العربية والإسلامية عبر قرون. وهذا البعد الهويّاتي يجعل العربية جزءًا من الذات الفردية والجماعية، لا مجرد أداة نفعية. والانفصال عنها يعني انفصالًا عن طبقات عميقة من الذاكرة الثقافية، وهو ما لا يمكن تعويضه بلغات أخرى مهما كانت أهميتها العلمية. غير أنّ هذا الارتباط بالتراث يجب ألا يُفهم بوصفه دعوة إلى تجميد اللغة أو منعها من التطور، بل على العكس، فالعربية كانت دائمًا لغة حيّة تتطور وتولّد مفردات جديدة وتستوعب التحديثات. والتحدي الحقيقي هو كيف نوازن بين الأصالة والتجديد، بين المحافظة على الهوية وفتح الباب أمام التطور الطبيعي.

وقد شهد التاريخ اللغوي العربي دورات كثيرة من التراجع ثم النهوض. ففي العصر العباسي، على سبيل المثال، واجهت العربية تحديات كبيرة مع دخول مصطلحات فارسية ويونانية وهندية، لكنها نجحت في استيعابها وصياغة منظومة لغوية فريدة. وفي العصر الحديث، واجهت تحديات الاستعمار الأوروبي وظهور المدارس الأجنبية، لكنها استطاعت الحفاظ على مكانتها كلغة رسمية وثقافية. واليوم تواجه العربية تحديًا جديدًا يتمثّل في العولمة الرقمية واللغات الهجينة، لكن التاريخ يعلّمنا أن اللغات التي تمتلك عمقًا حضاريًا ومؤسسات فاعلة قادرة على التكيّف والبقاء.

ومع ذلك، من الخطأ أن نُسقط مسؤولية حماية العربية على المؤسسات وحدها. فالمجتمع بدوره شريك أساسي في حماية اللغة. الأسرة يمكن أن تغرس حب العربية لدى الأبناء من خلال القراءة اليومية والحوار بالفصحى المبسّطة. والمدارس يمكن أن تحوّل العربية إلى مادة محببة عبر الأنشطة الإبداعية لا الامتحانات التقليدية. والإعلام قادر على إعادة الاعتبار للفصحى من خلال تقديم محتوى جذاب ومواكب للجيل الجديد. كما أن الفضاء الرقمي نفسه يمكن أن يكون ساحة لإحياء العربية، عبر المحتوى المرئي والمسموع، والكتابة الإبداعية، والمدونات، والقنوات التعليمية.

إن السؤال “هل ما زلنا نعرف لغتنا؟” ليس سؤالًا بريئًا ولا عابرًا، بل هو سؤال يُخفي قلقًا على مستقبل هوية تتعرّض لضغوط متزايدة. وربما تكون الإجابة الواقعية هي أننا نعرف لغتنا، لكننا لم نعد نعيشها كما يجب. نعرفها في الكتب والأغاني والمناسبات، لكننا لا نستخدمها بوصفها لغة يومية تُعبّر عن أفكارنا وقلقنا وأحلامنا. نعرفها تراثًا، لكننا لا نعرفها ممارسة. ومع ذلك، فإن هذا الواقع ليس قدرًا محتومًا، بل مرحلة يمكن تجاوزها إذا توفرت الإرادة والرؤية.

فاللغة العربية ليست مجرد ميراث نتغنّى به، بل هي مشروع مستقبلي قابل للنهوض. وإذا كان الأمس قد منحها مجد البلاغة والأدب والعلوم، فإن اليوم يمنحها فرصة دخول عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وبين الأمس واليوم تقف العربية تنتظر منّا أن نعيد اكتشافها، وأن نرى فيها ليس لغة الماضي فحسب، بل لغة المستقبل أيضًا. وهنا يبرز السؤال الختامي: إذا كانت لغتنا ما تزال تملك كل هذا الثراء والقدرة على الحياة، فهل نملك نحن القدرة على أن نعرفها كما ينبغي، وأن نعيد إليها مكانتها التي تستحقها؟