"إيلاف" من الرياض: لطالما كانت السينما الفن الشامل والتركيبي. فهي تشمل عدة الأدب والفن التشيكلي والمسرح والنحت والشعر والعمارة. فالسينما_ طبقاً لما يقوله الناقد الفرنسي من الأصول الإيطالية ريتشيوتو كانودو_ هي الفن السابع الناتج عن تعاون ستة أنواع من الفنون. علماً أن الأفلام والعروض السينمائية تتنوّع بين الواقعي المباشر، أو المتعمّق في الرمزية لإيصال معنى آخر مختلف عما توضحه الصورة أو يقوله الحوار



في الشهر الماضي، بدأت شبكة "نتفليكس" بعرض (ستة شبابيك على الصحراء) بعد أن استحوذت على حقوق بثها، وهي عبارة عن ستة أفلام سعودية قصيرة من إنتاج استوديوهات (تلفاز11). وهذا العرض هو الجماهيري الأول، بعدما كانت تُعرّض على مستوى محدود في المهرجانات السينمائية.ولقد اختلفت النقاشات حول هذه الأفلام. فكان فيلم "الجرذي"_ من تأليف وإخراج الكاتب فيصل العامر_ أكثر هذه الأفلام جدلاً على مواقع التواصل الاجتماعي بين مهاجم اعتبر أنه فيلم غير مفهوم، ومدافع يراه عملاً فنياً عميقاً يحوي العديد من الرموز المهمة والصور الفنية الجميلة.


المطيري: استخدام الرمزية دون مبرر هرطقة سينمائية

وفيما غرّد الناقد السينمائي المعروف رجاء المطيري برأيه عن الفيلم، لافتاً إلى أن "استخدام الرمز في الجرذي قد طغى على الحكاية حتى أصبح فيلماً مغلفاً لا يُدرك معناه إلا صانعه، وهذا خطأ"، التقت "إيلاف" بعدد من المهتمين والسينمائيين للحديث حول جدلية استخدام الرمز ومفهوم الرمزية في السينما. فكانت البداية مع الكاتب السينمائي عبدالمحسن المطيري الذي قال: "ببساطة السينما حكاية. والحكاية محورها الرئيسي الشخصية. وعلى هذا الاساس نبني العلاقة المتميزة بين الفيلم والمتلقي، ولا يمنع ان تتداخل بعض التكتيكات في مضمون القصة مثل السيريالية أو الرمزية أو الطليعية، ولكن يجب ان يكون لذلك مبررات واضحة."

وأعطى مثلاً بفيلم Mulholland Drive ‬لديفيد لينش الذي يتناول العمق الخاص بالاحلام والنوم. حيث كان هناك مبرراً لتغليف الفيلم بالسيريالية لأن الاحلام لا تكون واقعاً بشكلٍ عام.
وأشار أيضاً لفيلم "الذاكرة المفقودة"، موضحاً أن ما صنعه كرستوفر نولان في تمرير بعض الرمزيات، ماهو إلا توازي مع الشخصية الرئيسية التي تحتاج لفك الرموز. وقال أن الأمثلة كثيرة عن أفلام تكون فيها الرمزية حاضرة، ولكن مع تناسق شديد يُبرر إدراجها للفيلم. إلا أن الفيلم الذي يُصنَع من اجل "الرمزية" وتكون هي العنصر الأساسي فيه بلا أي مبرر، يدخل في نطاق الهرطقة السينمائية التي تعصف بالقصة وتُدمِّر العلاقة بين المُشاهد والقصة في غالب الاحيان.
وأضاف: "الرمز يجب أن يُمرر بشكلٍ هاديء في الفيلم وليس العكس. لأن ذلك سيقلل من قيمة العلاقة بين المشاهد والفيلم. وهي مبنية على التجاوب مع الشخصيات بشكلٍ واضح، لذلك نقول أن الفيلم الجيد هو الذي يؤسس للرمزية من خلال دمجها بشكلٍ سلس أو حتى خفي في القصة، وليس العكس. لأن سلطة "الرمزية" الدائمة تأتي بنتائج كارثية وعكسية." ونصح الكتّاب والمخرجين المبتدئين بعدم الوقوع بفخ الرمزية الواضحة أو الصعبة والمعقدة والقابلة لعدة تفسيرات بشكلٍ يفقدها قوتها. مشدداً على أن الأهم هو أن لا يفقدوا العلاقة مع المشاهد‪.‬


هناء العمير : فيلم الجرذي تجربة تستحق الإحتفاء

من جهتها المخرجة والكاتبة هناء العمير، شرحت وجهة نظر مغايرة حول هذا الموضوع. وقالت لـ"إيلاف": "الرمزية في السينما مسألة مهمة جداً، وأساسية للتعبير عن الأفكار الذي يتكلم عنها صانع الفيلم. وهي جزء من صناعة الأفلام. فالعمل البصري الفني يحتاج لنوعٍ من الاختزال والتكثيف لكثير من الأمور التي يتناولها العمل. وجزء من التعبير البصري يكمن في استخدام الرمز في شيئين: "أن يكون له علاقة بالقصة، والشيء الآخر أن لا يكون مستعصياً على الفهم، ولا يكون كذلك مباشراً بشكلٍ فج، كي يعطي المشاهد فرصة التفكير والتأمل. فهذا ما يعطي الأعمال السينمائية أكثر من مستوى للمعنى. وهو ما يدفع المرء لمشاهدة الفيلم أكثر من مرة، حتى ينتبه لمواضيعٍ أعمق من مفهوم الحكاية." وقالت: "من النادر أن نجد صانع فيلم لم يتعامل مع الرمز بشكلٍ أو بآخر، لكن، هناك من يوغل بالرمزية، وهناك من يتعامل معها بحدود".

وشرحت أن "الجرذي، ينتمي للمدرسة السريالية وبالتالي هو يتكئ على الرمز بشكلٍ كبير. ومن مشاهدتي له، لم أشعر أنه أوغل بالرمزية بشكلٍ مبالغ فيه. لأنه في النهاية حتى لو يتمكن الجميع من استيعاب الفيلم الذي اعتمد مخرجه على لوحة مايكل أنجلو في بداية الفيلم، وحتى لو عجزوا عن الربط بين العبارة التي ذُكَِرت في بدايته وما بين "كافكا"، يبقى هناك العديد من الرموز في الفيلم التي توحي بمفهومه، كخلع الشماغ الأحمر ولبس الغترة البيضاء، والمشي مع بقية الموظفين كتروس في آلة، وكذلك الألوان الباهتة التي أستُخدِمَت في الفيلم، والتضاد مابين اللونين الأبيض والأسود، أو حتى صرخة البطل في بداية الفيلم. كلها رموز وثيمات لصالح الفيلم ومفهومها التمرّد والرغبة بكسر القيود. وهذا يعني أنه في حال لم يفهم الجميع إحالات المخرج الفنية التشكيلبة( لوحة مايكل أنجلو ) أو الأدبية(كافكا)، فيجب أن يلحظوا المعاني الأخرى في هذا النوع من السينما المتطلب جداً والنخبوي جداً، لأنه لايعتمد على سردٍ قصصي."


وحول استقبال النقاد والجمهور للأفلام من هذا النوع، قالت العمير: "للأسف أحيانا هناك سقف توقعات كبير جداً من النقاد والجمهور رغم حداثة النهضة السينمائية في المملكة. فإذا خالفت الأعمال السينمائية المقدمة هذه التوقعات، ستكون ردود الفعل غاضبة".
وأضافت شارحة: "عندما أقول خالفت هنا، ليس بالضرورة أن تكون قد خالفت التوقعات بشكلٍ سلبي، بل اختلفت عما هو متوقع، فجاءت ردة الفعل غاضبة! وهذه إشكالية نقع فيها خاصة عندما نتكلم عن الأفلام القصيرة. لأن الأفلام القصيرة هي المساحة التي يجرّب فيها صانع الفيلم نفسه ويطرح أفكاره، باعتبارها مجالاً تجريبياً بالنسبة له. لكن، الجمهور الذي اعتاد مشاهدة الأفلام الطويلة والتجارية غير مستعد_ في الغالب_ لتذوّق هذا النوع من الأفلام. وكذلك النقاد الذين يرفعون سقف توقعاتهم بشكلٍ كبير رغم خبرتهم ومشاهدتهم للعديد من الأفلام الطويلة والقصيرة، ورغم حضورهم للعديد من المهرجانات. لكن أحيانا تكون هناك رغبة في التواصل بشكلٍ أكبر من الجمهور، لإعطاء الأفلام مساحة أكبر، وهو هدف سامي ونبيل، لكنه في نفس الوقت، يضيّق الخناق على صانع الفيلم! فهم بهذه الطريقة يحددون نوع الأفلام المفترض عليه تقديمها ويحدون من إبداعه! وانطلاقاً من هذه الفرضية، أتمنى أن يتسع صدر الجميع للتجارب المختلفة."

وختمت: "أرى أن الجرذي تجربة تستحق الإحتفاء، لأنه هناك ندرة في الأفلام السعودية من هذا النهج. وهذا التنوّع السينمائي مطلوب جداً في السينما السعودية، لأنه يعطي ثراء للفن السينمائي السعودي، بشكلٍ يرضينا، ويوسِّع المساحة في التعبير. وهناك نقطة أخيرة لا بد من الإشارة إليها. لربما، وجود فيلم الجرذي وسط مجموعة من الأفلام (أعني الأفلام الستة المعروضة في نتفلكس)، والتي تختلف في نوعها عنه، وهو ما تسبب بهذه الإشكالية حول الفيلم" .