حين فاز البريطاني-التنزاني-اليمني عبد الرزاق قرناح بجائزة نوبل للأدب مؤخرا تسبب بحالة ارتباك للقراء والنقاد العرب، فاسمه عربي، وهو من اصل يمني كما اتضح، لكن لا يعرفه كثيرون من قراء العربية، فكيف وصل إلى أهم جائزة أدبية "خلسة" أو "من وراء ظهورنا"؟

لم يكن وضع قرناح في بريطانيا مشابها لوضعه في العالم العربي، فسبق أن وصل القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر عن روايته "الفردوس" الصادرة عام 1994، وجائزة Whitbread.

كذلك لا يقارن وضع الطاهر بن جلون، المغربي الأصل الذي يكتب بالفرنسية، ورفيق شامي الذي يرجع أصله إلى سوريا بينما تعود شهرته الأدبية لكتاباته المنشورة بالألمانية، بوضع أمثالهم ممن يكتبون بالعربية.

ويمكننا أيضاً إضافة ياسمينة خضرا، الجزائري الأصل، الذي يكتب بالفرنسية مستعيرا اسم زوجته (اسمه الأصلي محمد مولسهول).

هناك أسماء أخرى المشترك بينها أصلها العربي وكتابتها ونشرها بلغة أخرى، ونجاحها في أوساط قراء اللغة المضيفة أكثر من شهرتها في أوساط قراء الضاد.

واقع الأدب في العالم العربي

يعود سبب الظاهرة المشار إليها إلى أكثر من عامل.

أولا هناك "أزمة قراءة" معروفة في العالم العربي، تتعدد أسبابها.

من المعروف أن دور النشر العربية تطبع 1000 نسخة من أي رواية جديدة في طبعتها الأولى، وأحيانا لا يتجاوز العدد 500 نسخة، وهذه المعلومة مصدرها دور النشر وكثير من الروائيين العرب.

يتضح بؤس الوضع حين نعرف أن أي كتاب يصدر بأي لغة أوروبية، حتى لو كانت المجرية التي لا يتجاوز متحدثوها خمسة عشر مليونا، تصدر من طبعته الأولى آلاف النسخ، ثم تعاد طباعته في الأغلب.

عدد سكان العالم العربي يتجاوز 400 مليون نسمة وفقا لإحصائيات عام 2020، فما سبب هذا العدد المتدني من قراء الكتب؟

هناك عدة أسباب طبعا.

يقول صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي وعضو المجلس الأعلى للثقافة المصرية في تصريحات سابقة لصحيفة الاتحاد الإماراتية إنه لا توجد آليات تسمح بإصدار بيانات صحيحة عن معدلات إنتاج الكتب.

هذا صحيح، وأستطيع أن أؤكده من تجربتي الذاتية في النشر في العالم العربي، حيث يتكتم كثير من الناشرين على عدد النسخ المباعة، وتزدهر دور النشر غير القانونية التي تطبع الكتب من وراء ظهر الكاتب والناشر، لكن يمكن رصد مدى انتشار كتاب ما من خلال عوامل أخرى كحضوره في الصفحات الأدبية للصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.

يحظى عدد قليل من الكتب بالانتشار وتسليط الأضواء الإعلامية عليه، وهي الكتب، وخاصة الروايات التي تحصل على جائزة أدبية ما، وهي نسبة ضئيلة جدا من الكتب المنشورة.

طبعا لا علاقة للموضوع بكثرة الكتب المنشورة، هي لا تقارن بعدد الكتب المنشورة في بريطانيا مثلا، ومع ذلك تحظى الكتب التي يرى فيها النقاد والصحفيون الثقافيون قيمة بتسليط الأضواء عليها، حتى لو لم تفز بأي جائزة.

في العالم العربي يحدث الأمر بشكل معكوس، حيث ينتظر النقاد والصحفيون الثقافيون أن تسلط أضواء على الكاتب لسبب ما، حصوله على جائزة عربية أو دولية، ثم يتسابقون، للكتابة عن نتاجه الذي أهملوه لسنوات قبل حصوله على الجائزة.

إذن هناك فرق نوعي في حظوظ الكاتب العربي الذي يكتب بلغة غير العربية، وامتياز يفتقر إليه الكاتب بها.

سرد مختلف

ما سبق يتعلق بالانتشار ولا علاقة له بالتميز. ما الذي يجعل نتائج الكتاب العرب بغير العربية أكثر تميزا إذن ؟

بالنسبة لقرناح لم تكن لغة الكتابة خيارا ذاتيا بل راجعا لظروفه الموضوعية (هو لا يتحدث العربية بشكل يمكنه من الكتابة بها)، لكن الكاتب المغربي الطاهر بن جلون الحاصل على جائزة "غونكور" الفرنسية الرفيعة وجائزة "دبلن" وجوائز أدبية أوروبية أخرى، يقول إن "اللغة العربية عاجزة عن استيعاب الحرية التي توجد في لغات أخرى".

وسبب هذا صدمة لابن بلده الكاتب والناقد المغربي محمد برادة الذي كتب في مقال نشره موقع Arab World Books "لم أصدق أذني وأنا استمع إلى الطاهر بن جلون يتحدث في برنامج تلفزيوني عن أن اللغة العربية لا تساعد على التعبير الصريح الكاشف لأنها تعتبر مقدسة بوصفها لغة القرآن".

يكتب برادة "لم أصدق أذني لأن بن جلون ألغى بجرة لسان كل الجهود الإبداعية التي بذلها شعراء وروائيون وقاصون ومسرحيون عرب طوال القرن العشرين من أجل توسيع نطاق العربية وتطويعها للتعبير عن مختلف التجارب والظاهرات، واستقبال ترجمات لنصوص علمية وفلسفية وسوسيولوجية وأدبية من مختلف اللغات".

ويعتقد برادة أن رأي بن جلون ينطوي على "مغالطات" وأنه "يستسهل الحديث عن الأدب العربي المعاصر الذي لا يقرأه ولا يتابع إنتاجاته"، حسب ما يرى برادة.

في الحقيقة يدعم الواقع العربي وجهة نظر بن جلون أكثر من رأي برادة، فالمبدع العربي محاصر على أكثر من مستوى، وأما للغة التي تعد وسيلته للتعبير، فإن حصاره بها هو الأشد إيلاما: حصار أخلاقي، سياسي، ديني.

لقد حكم على الكاتب المصري أحمد ناجي بالسجن سنتين بتهمة " خدش الحياء العام"، كما تعرض الكاتب الفلسطيني عباد يحيي لحملة شعبية ولوحق كتابه "جريمة في رام الله" بسبب التهمة نفسها.

و"الحياء العام" ليس السيف الوحيد المسلط على لغة الكاتب العربي، هناك سيوف "أخلاقية" و"سياسية" أخرى، حيث يحاكم نتاج الكاتب بدلالة غير إبداعية، كمدى تماهي لغته وسلوك شخصياته مع الثقافة الأخلاقية/السياسية السائدة.

كاتب هذه السطور لم يسلم من هذا التضييق، فقد طلب منه ناشر أحدث رواياته "غريب" تغيير بعض المفردات في حوار شخصياته لاعتبارها "خادشة للحياء العام"، وقال له الناشر إن الرواية قد تصادر من المكتبات في الدول العربية إن لم يفعل.

ويواجه نتاج الكاتب أيضا بمحاكمة سياسية صارمة لمحتواه، فيحكم عليه بدلالات لا علاقة لها بقيمته الأدبية.

طبعا لا يواجه من يكتب بلغة أوروبية تضييقات كهذه، فيتيح هذا للكاتب هامشا أوسع للتحليق الحر.

بالنسبة للروائيين الذين يكتبون بالعربية تتباين مواقفهم من الموضوع.

الكاتبة العراقية، إنعام كجه جي، تقول إن مجيئها من العمل الصحفي قبل عقود جعلها تتعود على أن تكون بمنأى عما تروي من أحداث. مع ذلك فهي ضد الحياد الكامل وتعتبره سلبيا، فهي تحب أن تكون الوقائع التي ترويها مشحونة بحرارة الإحساس، إحساس الشخصية لا الكاتب.

وتضيف أنها، ولأن رواياتها تتناول وقائع وشخصيات عراقية فإنها تلتزم الحياد في حكمها على قناعات الأبطال، سواء كانت سياسية أو دينية، مع حرصها على تثبيت روح التسامح التي كانت سائدة بين العراقيين. وتتساءل: هل أستطيع ضبط نفسي فلا أتعاطف مع هذا أكثر من ذاك أو ضده ؟

الروائي السوداني، أمير تاج السر، يقول إن الموضوع صعب، لكنه يكتب المقالة الصحفية والرواية بالروح نفسها، مع أنه يجد الموضوع صعبا. يصور القضايا والممارسات بما لها وما عليها ويترك للقارئ الحكم. يقول إنه لا يفعل ذلك بتخطيط صارم، بل يحدث بشكل عفوي. هو يعتبر المقال مقطعا روائيا.

أما الروائي الفلسطيني، ربعي المدهون، فيعزل نفسه عن مواقفه السياسية أثناء الكتابة وينطلق من منطلقات إنسانية، وبصور كافة الملامح المتاحة للشخصيات، إنسانية وغير إنسانية.

يقول إن هذا كثيرا ما يضعه في إشكالية مع القراء والنقاد لأنهم يميلون للربط بين الكاتب وشخصياته الخيالية، ويتوقعون منه أن يصور الشخصيات التي يميلون إليها بشكل إيجابي ونقيضها بشكل سلبي، بينما هو يحاول الانفصام عن الأيديولوجية في تصويره لشخصياته.

يقول إن هناك إشكالية مع المتلقي الفلسطيني الذي يتوقع من الكاتب أن يصور الشخصية الفلسطينية بشكل إيجابي محض ونقيضها بشكل سلبي تماما.

أما الكاتب الفلسطيني، أكرم مسلم، فيقول إن "الكاتب غير محايد" ولا يرى في الانحياز "ورطة" دائما، بل على العكس، كثيرا ما يكون الحياد هو المصيدة، برأي أكرم.

ويرى أكرم أن الحياد (العاطفي والسياسي) ليس شرطا جماليا. ولا الفردية الكتابية ولا نقيضها (غنائية القطيع) شرط جمالي.

يقول إن المهم كيف يقدم الانحياز على أنه "انحياز جمالي" فلا يتكئ على أخلاقيته وكيف ينقل "تورطه المشاعري" ليصبح مقنعا لقارئ لا يشاركه المشاعر ذاتها.

ويتطرق أكرم لخصوصية الوضع الفلسطيني فيقول إن نقل علاقات القوة الموجودة على أرض الواقع الفلسطيني (من حيث وجود جنود إسرائيليين ومستوطنين هم في موقع قوة أصلا انطلاقا من موقعهم في الصراع) فتركهم يحتلون المشهد فيه خطر على الصورة الكلية.

أكرم يرى أن مهمة الفن تفكيك علاقات القوة غير العادلة بين البنت الجامعية المتوترة على الحاجز والجندي المسلح الواقف بينها وبين جامعتها. لا يدور الحديث هنا عن شخصيتين في سياق حيادي، فهناك بندقية بينهما تصنع الفرق، يجب انتزاعها أولا، ومن ثم يمكن الحديث عن تناول محايد، كما يرى أكرم.