التلقيح للوقاية من المرضيفرض الانتشار المحسوس لالتهاب الكبد الفيروسي بكل أنواعه في الجزائر، استيراتجية الكشف والتلقيح لمكافحة مرض مكلّف جدا ويصنّف ضمن الأمراض العشرة الأولى المسببة للوفاة في العالم. وفي هذا التحقيق الخاص بواقع داء التهاب الكبد بالجزائر، يدعو أخصائيون إلى تكثيف استخدام بيولوجيا الجزيئات كعلاج مجدي وفعّال، فيما يؤكد ناشطون لـquot;إيلافquot; أنّ حقيقة داء التهاب الكبد في الجزائر مربكة وتناقض رأسا التطمينات الرسمية.

وخلافا لتأكيدات الجهات الرسمية حول انتشار متوسط لمرض الالتهاب الكبدي، فإنّ quot;زهية بكة'' الأمينة العامة للجمعية الجزائرية لمساعدة المصابين بالتهاب الكبد الفيروسي، تحذر من سرعة انتشار هذا المرض، وتقول بكة أنّ نصف مرضى الجزائر مصابون بالتهاب الكبد المذكور، على نقيض اتجاه الدوائر الوصية إلى أنّ 2.5 بالمئة من السكان فحسب يطالهم التهاب الكبد الفيروسي من النوع (ب)، و2.7 بالمئة يعانون من الصنف (س).

ويشير quot;عبد الحميد بوعلاقquot; رئيس جمعية quot;الإغاثة من الالتهابات الكبديةquot; أنّ مئات الحالات يتم اكتشافها دوريا، بينها 30 بالمئة خلال الفحوصات العادية، معتبرا أنّ الإحصائيات الرسمية لا تعكس الوضعية الحقيقية، وبحسب بوعلاق فإنّ عدد الحاملين لهذا الفيروس يلامس حدود 1.5 مليون شخص، وهو رقم كبير ومخيف في بلد قوامه 36 مليونا.

ويذكر أطباء مختصون أنّ 70 إلى 90 بالمئة من الحالات المسجّلة أتت نتيجة عدوى، ويؤكد quot;بركان سعديquot; الأخصائي في أمراض الجهاز الهضمي والأمعاء، أنّه في غياب الكشف والتلقيح يتطور التهاب الكبد الفيروسي إلى تشمع الكبد الذي يتحول بدوره إلى سرطان الكبد، ما يفرض تحسين نوعية التكفل العلاجي والسيكولوجي بالأشخاص المصابين بهذا المرض.

ويركّز quot;نبيل دبزيquot; الأخصائي في داء التهاب الكبد على النتائج المبهرة التي حققتها بيولوجيا الجزيئات، ويستدل بكون 90 بالمئة من المرضى يستجيبون للقاح quot;الموثوق والفعالquot; على حد وصفه، ويرى دبزي أنه من غير الممكن معالجة الالتهابات الكبدية دون تحاليل بيولوجية، داعيا أيضا إلى ترشيد العلاج على مستوى مراكز علاجية محددة بدقة.

وبمنظور بركان ودبزي، فإنّ الخطر يكمن في افتقار الجزائر للدراسات الوبائية حول المرض، بجانب غياب تشخيص الالتهابات الكبدية عند الحوامل، بهذا الشأن، يشير بركان إلى إنتقال مرض التهاب الكبد عبر ثلاث طرق، سواء عن طريق الدم أو الجنس، أو عموديا أي من الأم إلى الجنين خلال الحمل، وهو ما يفرض الطابع الاجباري للكشف لدى المرأة الحامل، سيما وأنّه بين كل مائة مولود حديث من أمهات أصبنّ بالتهاب الكبد الفيروسي، 90 بالمئة منهم قد يصابون بهذا المرض في سن العشرين.

وعليه، يشدّد دبزي على الضرورة الملحة للوقاية والتلقيح، خصوصا بالمناطق الواقعة في جنوب البلاد، أين تشير دراسات إلى أنّ 80 بالمئة من حالات الاصابة بالالتهاب الكبدي quot;سquot; هي من الطراز العرقي 1.

كما ينتقد دبزي عدم تقدم بعض المتزوجين حديثا بـ(التلقيح) إلاّ قبل اسبوع من عقد قرانهم، رغم أنّ اللقاح لا يعطي مفعوله إلا في غضون ستة أشهر.

ويعزو أطباء اتساع رقعة مرض التهاب الكبد إلى غياب الوقاية، وانعدام أدوات التعقيم على مستوى عديد المشافي، فضلا عن قلة الإعلام وغياب التكوين من شبح يتنامى، وينتشر الالتهاب الكبدي من صنفي (ب) و(س) بصورة خاصة وهما من الأنواع الحادة، كما لا يقلّ النوعان (أ) و(هـ) شيوعا في الجزائر، طالما أنهما يصيبان الكبد بالتهاب حاد ومعظم الإصابات تحدث أثناء فترة الطفولة ولكن قد تحدث في أي عمر إذا لم يصب به الإنسان من قبل، ويستشري المرض على نحو ملحوظ في الأماكن التي يتدنى فيها مستوى النظافة البيئية، ما يشكّل خطرا محدقا على الصحة العامة في الجزائر.
ويشرح quot;جميل عرديquot; أنّه عادة ما يكون مرض التهاب الكبد الفيروسي بدون أعراض في فترة الطفولة، لكنه يزداد شدة مع تقدم العمر، ويفرض علاجا سريعا وفعّالا وعادة ما تكون القاعدة هي الشفاء التام بدون مضاعفات أو انتكاسات، حيث أنّ نسبة الوفاة تعدّ أقل من 1 بالمئة، وتبقى المناعة ضد الإصابة طوال الحياة، علما أنّ فريق علمي أمريكي اكتشف قبل فترة إنّ علاجات التهاب الكبد الفيروسي (س) المتوفرة حاليا ناجعة، تبعا لفعاليتها في القضاء على الفيروس في الجسم عند 99 بالمئة من المرضى وفي فترات علاجية لم تتجاوز مدتها السبع سنوات.
من جهته، يلّح quot;مراد بن حبيلسquot; على النظافة في المستشفيات من أجل التقليص من أخطار انتقال العدوى، مضيفا أنّ فيروس التهاب الكبد أكثر خطورة من فيروس السيدا، لأنّ 90 بالمئة من المرضى الذين تمّ تشخيصهم لا تظهر عليهم أعراض الداء المذكور، وهو ما يزيد من صعوبة مهام الأطباء، ويورد بن حبيلس أنّ فيروس التهاب الكبد ينتقل بسهولة عبر الدم أو مجرد حقنة، لذا يوصي بغسل الأيدي بالماء والصابون فور لمس شخص جريح يمكن أن يكون حاملا للفيروس.

ويشدّد أخصائيون على حتمية تعميم إجراءات التطهير وتجهيزات التعقيم لدى جراحي الأسنان وتزودهم بقفازات وبأقنعة، ناهيك عن تكريس النظافة الاستشفائية، وهي بنظر دبزي وبركان وبن جبيلس ليست مسؤولية أطباء الأسنان فحسب، بل تخص عموم الأطباء الممارسين على غرار مختصي طب النساء و الجراحين.

إشكالات تفرض نفسها

مريض يتلقى العلاجبرغم المخصصات المعتبرة التي رصدتها السلطات لمكافحة التهاب الكبد الفيروسي، والتي بلغت 3.5 مليار دينار (ما يعادل 2.5 مليار يورو)، يبقى التكفل بهذا المرض ضعيفا في الجزائر، وبعيدا عن الاستجابة إلى متطلبات الأشخاص الذين يعانون منه.

ويأسف quot;عبد الحميد بوعلاقquot; لغياب استراتيجية حقيقية للكشف المبكّر ومخطط وطني واضح لمكافحة هذه الالتهابات، وهو ما يبرز من خلال العجز الفادح في المراكز المختصة بالفحص البيولوجي، وهو ما كانت له انعكاساته السلبية بحكم أنّ مرضى التهاب الكبد من الصنفين (ب) و(س) لا يمكن معالجتهم إلا بإتباع علاج مستمر، ضف إلى ما نجم عن نفاذ مخزون الأدوية ما يعقد وضعية ألف من المرضى، وهي كارثية تسببت في . وتدني نسبة الشفاء من الالتهاب الكبدي quot;سquot; إلى ما دون الـ40 بالمئة.

ويلفت بوعلاق إلى عدم توفر بعض المواد والأدوات الضرورية للعلاج على غرار الابرة المستعملة لاقتطاع الأنسجة ومجموعة الأدوات المستعملة للربط البلعومي، كما ينتقد بوعلاق بقاء الكواشف التي تم اقتناءها من أجل الفحوص التكميلية للمرضى لفترة زادت عن الأربعة أشهر في المطار بعد استيرادها، فيما لا تتجاوز مدة صلاحية الكواشف الستة أشهر، وهو وضع جعل اكثر من سبعمائة مريض ينتظرون عملية التكفل بهم، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من خطر المضاعفات التي يمكن أن تتسبب في الوفاة بسبب نقص التكفل الجيد.

وما يزيد الطين بلة، أنّ 80 بالمئة من الأطباء المختصين في جراحة الاسنان، لا يتوفرون على المعقمات الضرورية لتعقيم أدواتهم، ويقحم بوعلاق الآثار الثانوية quot;المزعجة جداquot; لعلاج داء التهاب الكبد.

ويروي مرضى شهادات مؤسية عن معاناتهم مثل لبنى (8 سنوات) التي تشكو تضاعف كمية الفيروسات لديها نتيجة نقص الأدوية، تماما بالنسبة لفوزية (19 سنة)، التهامي (23 عاما) وأحمد (40 سنة)، الذين يذوقون الأمرّين بسبب اضطرارهم قطع آلاف الكيلومترات من أجل العلاج، كما يشتكون من رفض المجتمع لهم والنظرة الدونية لمواطنيهم، ويعلق شريف (33 سنة) باكيا:quot;لا أستطيع الزواج، وأنا أواجه صعوبات في المؤسسة التي أعمل فيهاquot;، وتبعا لما تقدم ذكره، ينادي بوعلاق بتكفل سيكولوجي بمصابي هذا المرض اللاعرضي، وتحسيس الجزائريين باستيعاب هؤلاء المرضى والتواصل معهم.

ويبرز بوعلاق ضرورة وضع كشف يشمل الأشخاص الأكثر عرضة لهذا المرض مثل (الأطباء وأعوان الشرطة والدركيين) الذين هم في اتصال دائم بالدم والجرحى، مثلما يؤكد محدثنا على أنّ عدم احترام معايير الوصف الطبي تتسبب في عدم استجابة العديد من المرضى للعلاج ومعاودة المرض للبعض الاخر.

وفي وقت يقرع الشارع المحلي أجراس الإنذار إزاء استمرار عدم جاهزية مراكز الفحص المتخصصة والتشخيص المبكّر، ينفي فاعلون صحة تباهي وزارة الصحة الجزائرية بإنشاء 60 مركزا للتشخيص، حيث يقول ناشطون في القطاع إنّ المراكز المعلن عنها لم ترى النور بعد (؟!)، مثلما لم يتم حتى الآن عدم تسجيل أي نتائج ملموسة على صعيد التكفل السيكولوجي بالمرضى، وما يتصل بذلك من حملات التوعية.

وردا على الانتقادات، يقول quot;أحمد طرفانيquot; المسؤول المركزي على مستوى وزارة الصحة الجزائرية، أنّ هذا المرض يمثل مشكل صحة عالمي ولا يمكن للجزائر أن تتفاداه، مشيدا بتمكن بلاده من تحقيق تقدم في مجال التكفل بالمرض المذكور، حتى في ظلّ استمرار إشكال العلاج عن طريق البيولوجيا الجزئية، تبعا لارتفاع كلفة تحاليلها، ويعلن طرفاني أنّ مراكز التشخيص المبكر لفيروس فقدان المناعة المكتسبة (الإيدز) ستتكفل بالتشخيص المبكر لالتهاب الكبد الفيروسي (ب) و(س) عبر مختلف مناطق الجزائر.

واستنادا إلى بيانات المنظمة العالمية للصحة فإنّ فيروس التهاب الكبد يقتل مليون شخص كل سنة عبر العالم بسبب عدم الحصول على العلاج واللاتشخيص.