حوار مع عبد الرحمن طهمازي:
واهم ما تميز به جيل الستينيات في العراق روح الابتكار

صفاء ذياب منبغداد: كلما نذكر الجيل الستينيات الشعري العراقي، لا نستطيع إلا ان نضع في مقدمته عبد الرحمن طهمازي، فمنذ نشاطه السياسي الأول في الستينيات، ودخوله معترك الحياة الصحفية، واصداره quot;ذكرى الحاضرquot; وquot;تقريظ الطبيعةquot; اللتين بقيتا عالقتين بذهن الشاعر والمثقف العراقي. في ظل هذه الظروف الصعبة التي يعيشها العراق ترك كل شيء وبقي في بيته يراقب المشهد العراقي والتحولات الجديدة يوما بعد يوم... إن كانت هذه التحولات على المستوى الثقافي او السياسي او الاجتماعي. لديه آراء متجددة على مستوى الثقافة والفكر والفنون والسياسة، لهذا نجد الشباب منا يحاول في كل يوم ان يبحث عما يطرحه طهمازي من مقالات وآراء... من اجل كل هذا حاولنا الدخول الى بيته من اجل معرفه جديده، ومن اجل معرفة كيف ينظر الى التغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية في العراق اليوم:

* ما الذي ضاع؟
- سؤال واقعي إلى درجة ينظر من خلالها المرء انه أمام صحراء. لو حاولت ان احدد ما الذي ضاع، فعلي ان احدد ما الذي بقي. بإمكان امرئ مثلي ان يشعر ان ما بقي له من الناحية الكمية ليس كثيراً. أما على المستوى الواقعي كفرد، فقد ذهب عمر، وذهبت بيئة، وعلاقات، وأجزاء كثيرة من الإرادة، فلا اشعر ان الذي ضاع سيعود في يوم ما.
جزء من الأشياء التي ضاعت قد لا تستحق الأسف، فهناك أشياء كثيرة أنا شخصيا أعاني من فقدانها، منها الاستقلال على المستوى الشخصي، فكلما نظرت إلى الماضي حينما كنت حراً وشابا اشعر انه كلما تقدم العمر بدأت الحلقة تضيق، بالمسؤوليات وبانعدام أو قلة فرص الاستئناف.
الذي ضاع على المستوى الوجودي شيء كثير، لكن هذا مفهوم لدى الإنسان، فكلما تقدم، كلما شعر انه في آخر الشوط، ولا يمكن ان يكف عن الحركة، وهو في آخر سباق المسافات الطويلة، مع علمه بأنه سيخسر كل السباق، على طريقة ديوجين... الإرادة متبقية، والإصرار كذلك، لكن على المستوى الواقعي فإن شوطا طويلا قد مر، وكله قد ذهب... وهذا نوع من الرثاء.

* ألا تتوقع انه مع ضياع الأشياء التي ذكرتها، هناك أشياء ولدت كبدائل؟
- على المستوى النظري يمكن التعبير بهذه الطريقة، لكن على المستوى الفيزياوي والواقع الملموس هناك أشياء لا تعوض.

* مثل ماذا؟
- الحيوية... الجسد... القابلية، هناك فرق بين القابلية والرغبة، فأنت قد ترغب بأشياء كثيرة، لكنك تجد قابليتك محدودة. ولكن عندما تجد رغباتك متفقة مع قابلياتك، تكون قد وجدت هويتك مطابقة بين الإرادة والقدرة على التنفيذ. هناك الكثير من الرغبات البسيطة جداً أجدني عاجزاً عن تحقيقها، كأن تلتقي بصديق، تقرأ ما تحب، تتخلص من أشياء مزعجة... هذه ليست باليد.
أما على المستوى النظري والخبرة، أو ما يسميه اليونانيون فن الوجود، الذي يختلف عن فن العيش، نعم هناك توصلات طيبة وان كانت ناقصة، لأن فن الوجود يقتضي ان يكون لنا نوع من الأطر اسمي احدها الصداقة...

* كيف ينظر طهمازي اليوم إلى تاريخ بداياته عندما كانت الوعود ممكنة التحقيق، التجريب مختبراً للذات، والسياسة وسيلة لفهم ما كان يدور حوله؟
- إذا استطاع المرء ان يضع بدايات لعمله فهي أسطورية، وهي مثل النهايات، فلا استطيع ان أضع بداية أو نهاية، فهذا من الأساطير... لكني استطيع ان أقول انه حينما وعيت المشروع الفني، وأنني داخل هذا المشروع كان نوعاً من الإرادة المخالطة بالموهبة مع الرغبة بالتثقف. آنذاك بدأت أعي المشروع الثقافي في بداية الستينيات من القرن الماضي، وكان لي نشاط في مجالات متعددة، ومن ضمنها السياسة، أي بمعنى العمل الاحترافي السياسي. ولم أكن اخلط بين عملي في السياسة وبين موهبتي، إذ كنت مستقلا تماماً في الشعر. المشروع الثقافي ليس مشروعاً فردياً، وهذا ما تتأكد منه عندما تنظر إلى بداياتي، فهي ليست مشروعاً شخصياً، بل هي مشروع عام. هناك تقطعات كثيرة، هناك تضحيات عامة وخاصة... وهي جزء من تاريخ عام أحيانا يتحول هذا التاريخ إلى ذاتية شخصية.
فترة الانطلاقة تختلف عن فترة التأسيس في المجموعة التي كنت اعمل معها، ان كانت ثقافية أم سياسية أم اجتماعية... كان الانطلاق أقوى من التأسيس، ففي بداية الستينيات كان العالم كله يتجه نحو الانطلاق. التأسيس يحتاج إلى وقت أطول، لكننا في العراق صادفنا عقبات كثيرة، رصّنت بعض الناس ودمرت آخرين وشوهتهم.

* هل استطيع ان أقول انك تنظر إلى بداياتك كأسطورة، كما ينظر جميع شعوب العالم إلى بداياتهم على انها أسطورية، كالسومريين الذين ادعوا ان بدايتهم كانت من جنة عدن؟
- لا، اعني بالبداية هنا البداية الشخصية، ليس هنالك كن فيكون في البدايات، أي في بداية هوية شخص ما، لا بد ان تكون هنالك مقدمات، بحيث تحصل بداية رمزية، أي ان أضع نقطة على خط طويل واحدد منها بدايتي، لا ادعي بدايتي هي بداية الخط... وهذه هي الأسطورة التي يحاول البعض اختلاقها، نعم تقول لي متى نشرت أول قصيدة أو عمل نثري استطيع ان ارجع إلى الأرشيف وأقول لك في هذا التاريخ تحديدا، ولكن هل هو هذا تاريخ تكوين القصيدة... أنا انظر إليه على انه تاريخ لتكوين شيء آخر، بالعلاقة بالفعالية الثقافية. أما النهايات فلا تستطيع تحديد أي شيء، حتى نهاية النص، ولكنك تستطيع ان تحدد نهاية أي شيء فيزياوياً.

* أعود إلى سؤالي، ما الذي كنت تحلم به ولم يتحقق؟
- المشروع العام الذي كنت اعمل واحلم من اجله في المراحل الأولى من الوعي، وهو مشروع فيه إرادة وأحلام، ولم يتحقق فعلا على مستوى الواقع. في ما بعد أنا لم أواصل العمل السياسي، إذ اني عملت فترة قليلة لكنها مركز جدا... أما المشروع الثقافي الذي بدأ منذ دخولي الجامعة في أواسط الستينيات في فترة استطيع ان اسميها بالليبرالية إلى حد كبير، كنت أتوقع ان تتسع للاهتمامات الثقافية أو تلعب دورا في البناء الاجتماعي والسياسي. هذا المشروع سبب انتكاسة نفسية خصوصاً بعد حرب حزيران 1967 من خلال المشروع العربي وانتكاساته، وبعد حكم البعث الثاني (كما احب تسميته) في العام 1968، والتخبط السياسي لكل القوى السياسية وليس البعث وحدة، مع تعقيد الظروف الدولية، أدى بالمشروع الثقافي إلى ان يضيق أو يختزل إلى مشروع أيديولوجي، وهذا ما حل بالثقافة العراقية وتحولها إلى مشروع أيديولوجي، وهذا اخطر ما حل بها، إذ حلت الإدارات الثقافية محل المثقفين، والمزايدات وقلة الاكتراث بالمعرفة بمعناها الصحيح...

* ما زال الحديث مستمرا عن جيل الستينيات والصراعات الدائرة في تلك الفترة، هل تستطيع ان تحدد آليات عمل ذلك الجيل وما الذي أسسه في الثقافة العراقية؟
- المجموعة التي بدأت تعمل في الصحافة والثقافة والفنون والعمارة لم تكن واحدة، بل كانت تشكل عدة مجموعات، لكل مجموعة آراء مختلفة عن الأخرى، وتختلف هذه المجموعات عن الأجيال التي سبقتها، مع العلم اني أفضل تسمية جيل الستينيات بالجيل الثالث، في الثقافة العراقية...

* هل نستطيع ان نقول ان الجيل الأول هو جيل الرصافي ورفائيل بطي، والثاني هو جيل السياب؟
- نعم، حيث التغيير النوعي في الشعر والرسم، وحتى بالغناء. ثم يأتي الجيل الثالث بعد مجموعة هجينة بين هذين الجيلين. واهم العناصر التي تميز بها هذا الجيل روح الابتكار، الرغبة في عدم تصديق البديهيات في الثقافة، التي كانت الأجيال السابقة يلقنوا بها، في اشكال البلاغة العربية، المحسنات، التناظر بالانتاج، فبدأت بكسر النسق المتعارف عليه، بمعنى ادخال عناصر جديدة على العادات الثقافية، مع شعور عالٍ جدا بالتحرر والاستقلال، بمعنى ممكن ان يمثل الفرد شخصيته اكثر مما يمثل مجموعة اعتبارات قائمة، يجب ان يقوم بخدمتها... فمجرد وجود شعور لديك ان تكون مجددا، ولد نوع من الجرأة على المسلمات بمجملها، التي لم تختبر اختباراً جدياً سابقا، مسلمات من قبيل الايقاع المتكرر، والتناظر في الرسم، أو التسليم بأشكال العمارة القائمة، كله مرتبط بسقوط الملكية وبداية المؤسسة الجامعية الممثلة بجامعة بغداد التي أسست في العام 1957، والتي أنتجت الأجيال الأولى من المتعلمين تعليما متقدما... باستقرار الطبقة المتوسطة في المجتمع، التي كان لديها وقت كبير في انعاش الثقافة وتأسيس هوية محلية، كل هذا سلم جيل الستينيات مع الشعور بالتنافذ الثقافي القومي والعربي. واستفاد كذلك من أشعار المتصوفة ونثرهم، والاهم من ذلك الشعر الغربي، من خلال الترجمات أو الاطلاع المباشر، إذ أتقن الكثير من هذا الجيل أكثر من لغة من خلال دراسته الجامعية، فأذكر ان الشاعر مجيد ياسين ترجم (القضية) لفرانس كافكا قبل ان تطبع أية ترجمة في الوطن العربي، وقرأناها من خلاله.

* قلت ان الجيل الستيني كان عبارة عن مجموعات، هل تستطيع ان تحدد المجموعة التي حركت الوسط الثقافي بشكل فاعل؟
- كان هناك مؤيد الراوي، وأنور الغساني، وفاضل العزاوي وسركون بولص، وعبد القادر الجنابي. مع مجموعات لم تكن تنشر أساسا ومهمة جدا، كمنعم حسن وقتيبة عبد الله، إذ كانوا مثقفين من طراز رفيع. وأيضاً هناك مجموعة من السياسيين لهم علاقة وثيقة بالثقافة، كحبيب الدوري وطارق الدليمي... وأيضاً صحفيون لهم دور مهم كإبراهيم زاير، ورسامون كفايق حسين وطالب مكي وصالح الجميعي... فضلا عن الشعراء الشعبيين ككريم محمد وعمران القيسي الذي كتب بالشعر العامي، وهو من أوائل الشعراء الذين نشروا مجموعة شعرية مستقلة بالشعر الشعبي.
وفي مجموعة أخرى مثلا كان سامي مهدي ومالك المطلبي، وفوزي كريم، واخرين. لكن هناك فروق في الاداء والعِدد الثقافية وحتى النزعات الايديولوجية، مع الفوارق في الاخلاق النفسية لكل مجموعة.

* أكثر ما يثار حول جيل الستينيات قضية البيانات الشعرية، كيف تنظر إلى هذه البيانات في التأثير بحركة الثقافة في ذلك الوقت؟
- البيانات ظهرت في آخر سنة في الستينيات، وقد كتب فاضل العزاوي بيانا ووقع عليه مجموعة من الشعراء بينهم سامي مهدي وفوزي كريم وخالد علي مصطفى، وكان قيام بنوع من الإرادة التي هي خليط بين الفلسفة وعلم النفس والسياسة والفن، أي على طريقة البيانات السوريالية مع حفظ الفارق. أثار هذا البيان ردود فعل أيديولوجية في الغالب وليست ثقافية، تراوحت بين الرد السياسي أو انزعاج الأيديولوجيين، وبين التهكم والشعور بأن هذا البيان يشكل خطرا على بنية الثقافة التقليدية والأعراف الشعرية.
أما بالنسبة لي، فلا أقول اني وقفت مع هذا البيان، ولكني وقفت ضد الحملات التي أثيرت ضده، ونشرت تعليقا في مجلة ألف باء حول تهجم بعض الماركسيين على البيان، واعتبرت موقفهم موقفا اقرب إلى البرجوازية، إذ يحتاج الفنان إلى مقدار اكبر من الحرية، من دون تحديده بما يجب وبما لا يجب. أما اثر هذه البيانات فلا استطيع ان أقيسه لأنه في العام 1969 الذي نشر فيه البيان كان البلد يتجه اتجاها آخر، ومن ضمنه الوضع الثقافي... إذ كان طريقه نحو الأدلجة التي تجلت على نحو أعمق في النصف الثاني من السبعينيات، وأثرت على النشر والحياة اليومية للناس.

* بقيت طوال سنوات الديكتاتورية في هرمسية اللغة، وكأنك وجدت ملاذاً يحميك من المساومة والخيانة التي وقع فيها معظم الشعراء إبان حكم صدام، هل أعطتك هذه الاهتمامات اللغوية فهماً آخر لما يجري؟ أقصد هل يمكن ان نقول ان هذا الاعتكاف اللغوي هو عين ما تفتقر إليه التحليلات السياسية؟
- أحب ان أصحح بعض الانطباعات، ففي السنوات التي أعقبت الحكم الثاني للبعث في 17 تموز1968 ، تجد ان معظم نشاطي الكمي والنوعي نشر آنذاك... فقد نشرت المجموعات الشعرية في تلك الفترة، وطبعت مجموعتاي quot;ذكرى الحاضرquot; وquot;تقريض الطبيعةquot; في مطابع الدولة، وهي دار الشؤون الثقافية. ولا اعتقد ان للأداء اللغوي تأثير، أو هو نتيجة تأثير مباشر... فأدائي اللغوي هذا بدأ قبل 1968. ولكن يمكن ان يجري المرء تحليلا لبعض النصوص التي تميزت بعدم تسليم المفاتيح بشكل سهل للقراء.
الفنان عموماً، له خط دفاع، صحيح ان خط دفاعه قد يكون صريحا في مهاجمة الخصم، وأحيانا يضع في صلب قصائده شفرات موجهة. لكني لم أكن مهتما بهذا النوع من الصناعة، ولكن كانت تفهم قصائدي بأنها غير راضية عن الوضع الإنساني الموجود في البلد، لأن للسياسة تأثيرات لا سياسية، خاصة في العهود المتزمتة بالأيديولوجيا. فالفنان يحاول ان يدافع عن أناه أولا، ويحاول ان يوصل رسالته...
وأريد ان أوضح ان ليس كل الشعراء والمثقفين استجابوا لإغراءات السلطة وأخلاق الطاعة، والرغبة بالتبجح والمزايدات السياسية، فهناك بعثيون حاولوا ان يبتعدوا في شعرهم بنحو من الأنحاء بعيدا عن الايديولوجيا- في شعرهم على اقل تقدير- ولكن هناك شعراء ومثقفين دخلوا في الماكنة مثلما يحدث في أي وقت وحتى الآن.

* نرى في اغلب قصائدك طريقة التكرار التي اعتمدها الشعر السومري والبابلي لتغليب الجانب الموسيقي للقصيدة، ومن اجل سهولة الإنشاد... على م تؤسس في قصيدتك بهذا التكرار؟
- أصل التكرار هو في الإيقاع، ثم تحول في الغناء العربي كالأدواء بالاعتماد على التكرار، ومن ثم ان كلمة poetry تعني التكرار، وعلى خلاف prose النثر الذي يعني التقدمات، فالتكرار هو أما ان يكون ضمنيا بالموسيقى والإيقاع والقافية، وهذا يقرب الشعر من الميتافيزياء، أو التكرار اللغوي. أي ان التكرار كمي ونوعي، في الشعر وفي النثر. وانا لم اقصد ان اكرر من اجل التكرار، فلدي قصائد مكررة في العناوين، خصوصاً في مجموعتي (تقريظ الطبيعة) فهناك اكثر من قصيدة بعنوان (شاعر) وكذلك (طبيعة)، واحيانا في بنية القصيدة...

* كررت في متون قصائدك اكثر من جملة واحدة، ففي قصيدتك (جنازة انكيدو) تبدأ كل مقطع بجملة (الطبيعة سقطت من يدي)؟
- في هذه القصيدة بالذات، الجملة التي قلتها هي بؤرة القصيدة، وهي بناء لشكل التشييع في هذه الجنازة، هنالك من يسير في أول الجنازة، وفي كل مقطع يضاف سطر جديد، حتى تصل إلى تسعة مقاطع، وهو تكرار يهتم بالمعنى أكثر من الشكل... المهم ان التكرار هو آلية اعتقد انها أصيلة في الشعر، وهو مركب أصيل من مركبات الفن... وقد لا يكون التكرار بجملة بحذافيرها، ربما يكون من خلال الصياغات الصرفية، أو كلمات فيها حروف علة ما... أي ان هناك أشكالاً عديدة من التكرار تظهر بعد إنتاج القصيدة.

* مارست النقد التشكيلي منذ بداياتك، هل ترى ان واقعاً نقدياً تشكيلياً في العراق يمكن ان يحيط بالأسس النظرية التي تحيط بالوحة؟ وكيف تنظر إلى النقد في العراق بصورة عامة؟
- اود ان اوضح شيئاً لك، أنا لست ناقداً في كل الحقول التي كتبت فيها... ممكن ان اسمي عملي تعليقات أو نوعا من الفكر، نوعا من الاستجابة المختلفة، واحيانا اقوم داخل هذا الفكر بإجراءات نقدية.
بالنسبة للرسم، أو النحت، التي عملت بعض التعليقات عليهما، حاولت ان اصنع فكراً لرسامين لم يكن لهم اطار عام، وأقول لك بصراحة: أنا لا اعتقد بوجود رسم عراقي، اعتقد بوجود رسامين موجودين في العراق.... ابتداءً من استخدام الاصباغ أو الخامات، استطيع ان اقول ان هناك رسامين ممتازين، لكن هل اخذت اعمالهم ملامح عامة... هذا لست متأكدا منه.
وكنت اشترك في الرأي مع مؤيد الراوي ومع المرحوم سعدون فاضل، الذي أعده أفضل من كان مؤهلاً بأن يقول أشياء ذات معنى حول الرسم والموسيقى آنذاك، وكذلك شاكر حسن آل سعيد... ونرى الكثير من كتب تعليقات عامة، كنوري الراوي وسهيل سامي نادر وغيرهم، ولكن هل تستطيع ان تسمي كل هذا حركة نقدية؟ أكيد هناك تعليقات عراقية ممتازة جدا، لكن مشكلتنا في العراق هو عدم الاهتمام بتعويض التراكم، أي اننا نعمل أشياء تبعثر عادة ولا تراقب، ومن ثم لا تأتي بنتائج ملموسة، أي ان المؤلف والناقد العراقي لا يهتم بمراقبة هذه الحركة أو يعيد تحريرها، وأنا واحد من هؤلاء الناس الذين يعانون من هذه المشكلة، واعتقد ان أسباب كل هذا عدم الاستقرار وغياب المؤسسة الشكلية، وهي ضرورية وتوحي بالاستقرار، كالمؤسسة القانونية والثقافية والجامعية، كلها غير مستقرة أبدا في العراق.

* ما يحدث حاليا من فوضى، يشعر المرء معها بخيبة أمل كبيرة، أهو نتاج طبيعي لعراق الحقبة الديكتاتورية، أم هو تعبير عن غياب سياسي ناضج مهيأ لمواجهة أوضاع هذه؟
-هل تريد من سؤالك هذا فحص السياسة والتنبؤ بمرحلة اقل ما توصف بها انها مرحلة انتقالية؟ إمكانية نشاط الاستبداد والسلوك الوحشي في المراحل الانتقالية عالية، الذي حصل بعد 9/4/2003 هو انهيار النسق، نسق الدولة العراقية، وعلى الرغم من ان ما حدث ليس انقلاباً إلا ان هناك شعورا طاغيا في المجتمع العراقي بكونه انقلاباً، وهناك رضا سبق التدخل الخارجي، وسبّب هذا التدخل فراغاً امنيا وسياسيا ملئ بما تسميه الآن الفوضى... ورافق هذه الفوضى سلوك غير مسؤول لدى القوى المحتلة التي اعتقد انها في كل العالم تكون اهتماماتها بالأمن الداخلي أدنى ما يكون، ومن هنا تنامى شعور بالازدهار السياسي الذي تنامى بعد سقوط النظام، والشعور بالحرية وبالوعود الاقتصادية حل مكانه شيئا فشيئا شعور بعدم الاطمئنان بالوضع الأمني... وهذا درس قديم جدا، ان الناس على استعداد للتضحية بالحرية إذا فقدوا الأمن. كانت الحياة اليومية للعراقيين تتعرض للانكماش، والشعور النفسي لدى العراقيين هو شعور بالوهن والشلل، وأحيانا فقدان، ليس الأمل الوطني فحسب، بل حتى الأمل الشخصي البسيط. مشكلتنا في العراق مضاعفة، قسم منها عبارة عن صراعات أعيد تركيبها، منها الصراعات الطائفية.
للدكتاتوريات السابقة نتائج ظهرت بعد مدة قصيرة، إلا ان الديكتاتورية التي مررنا بها لم تظهر نتائجها بعد، ساعد على هذه الفوضى وانعدام الأمل هو سقوط طبقة أساسية في المجتمع العراقي وهي الطبقة المتوسطة، وطوال فترة الحصار تآكلت، وعادة الطبقة الوسطى تعطي معنى كبير في المفاهيم كالوحدة الوطنية... لاحظ تاريخ الأحزاب العراقية، من حزب الاستقلال إلى الحزب الشيوعي إلى حزب البعث إلى الوطني الديمقراطي إلى حركة القوميين العرب، دائما الطبقة الوسطى هي التي تلون هذه الأحزاب... الآن هذه الطبقة غائبة بفضل هذا التوالد الهستيري للأحزاب والقوى التي لا نعرف لها جذور ولا مرايا، في ظل هذا الوضع كيف يمكن دراسة والاستفادة من تاريخ الديكتاتوريات واثارها، بدأت الآن صراعات على الطائفية والمناصب حتى بين الفئات الواحدة... وما نحتاج إليه هو العفوية الوطنية، الآن بدأ التشكيك ببديهيات معروفة، شخصية المواطن الدستورية انتهت، الآن لا يكفي لأي عراقي ان يقول أنا عراقي، بل يجب ان يقول من أية مدينة حتى يُقبل في أي بلد آخر. وضع البلد الآن يعتمد على درجة الصراعات وانانيتها، وربما سيحفظ وحدة العراق الآن هو البديل الاقليمي وليس وضع القوى السياسية الآن.

* هل شعرت بانزياح جديد في لغتك الشعرية بعد سقوط النظام، أو بتغيير في مقاربتك الشعرية للأشياء؟
- اود ان اعزل الحدث مهما كان ضخما عن البناء الداخلي لعملي الشعري، في مقابلة معي بعد السقوط، سألني احد الصحفيين عن الذي خسرته في ايام الحكم الثاني للبعث (وأنا احب هذه التسمية)، في الحقيقة ان نتاج الشاعر، أو نتاجي أنا شخصيا، لم يكن بحافز وجود نظام معين، أنا ابحث عن العدالة، والحرية واستقلالي الشخصي الذي أعده السعادة القسوى، في ظل أي نظام ابحث عن هذا، واعتقد انه لا يوجد نظام يوفر لي هذا الشعور لأنه مملكة خاصة بي... وبخصوص لغتي الشعرية أنا لست معنيا بالهجوم أو الإطراء على شخص معين...
كان حكم البعث في فترته الثانية كان نظاما في منتهى الشدة الأيديولوجية والعملية الواقعية، إذ كان نظام حزب واحد تكامل في توازن عالٍ إلى التمركز في شخص واحد، هذا النظام ليس غريبا عن تاريخ العراق القديم، ولكن بدرجات مختلفة... شاعر مثلي لم يكن يبحث عن مكاسب مهما كانت المغريات المقدمة لأي سبب من الأسباب بل كان يحاول ان يدخل إلى فنه وفكره بدون مزايدات، ربما دفعت ثم ذلك حياتي الشخصية، ولكن هذا كان يدخل إلى شعري بطريقة ليست إعلامية، بل هو جزء من الشعور العام بانعدام العدالة سواء في ظل نظام قاسي أو أنظمة اقل قسوة...
وفي قصيدة جديدة لي أسأل: ما الذي قد فعلتم بنا؟ أسأل من الذي فعل بنا هذا الشيء، هل هو حكم الرئيس السابق، ام أشياء اخرى؟ أنا مواطن- إذا تأكدت من مواطنتي- اشعر الآن انني أنا واسرتي واصدقائي مقيدين بالمعنى الكامل للكلمة، القلق الاكبر هو على مصير هذا البلد، لأنني منذ صغري افكر بهذا البلد، لم اكن اجزئه للحظة من اللحظات، افكر بالمشروع العام به.. الآن افكر بأشياء ابسط، هو كيف يمكن ان نلم شعثه؟
على المدى البعيد ربما يؤمن المرء ان ما يدفع الآن هو مقدمة مأمولة لمستقبل أفضل.

* هل نستطيع ان نعمم مفهوم المثقف العضوي التي طرحها غرامشي على المثقف العراقي، وكيف يمكن ان ننتج ثقافة شعبية من خلال هذا المثقف؟
- اعتقد اننا لن ننجح في تعميم فكرة غرامشي، أو تعميمها في بلداننا، فالصراعات في ايام غرامشي بين الجنوب والشمال الايطالي اقل حدة من الصراعات التي نعيشها الآن، ووجود مثقفين قياسيين ككروتشه مثلا، إلى ايام بناء الأحزاب التي كانت تعادل الدولة... مشكلة تعريف النخبة أو الصفوة الثقافية، ما مدى حجم المثقفين في اماكنهم، وما تأثيرهم في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية... من المثقف؟ هذه مشكلة تختلف من مكان إلى آخر، بين ان يكون المثقف مخرباً غير عارف بشؤون العمل، وبين ان يكون مشروع أمل، وكيف تجدد الثقافة، المثقف الآن ليس هو من يعرف كتب المؤلفين القدماء، الآن يحتاج إلى معرفة معلوماتية وبنظم الاتصال وبتقبلها والتفاعل معها... اولا كيف يتقبلها وكيف يتعايش معها والتأثير من خلالها، والمثقف العراقي لم يتعرف على المعلوماتية الا في السنوات الاخيرة...
في تقديري ينبغي على المثقفين في العراق بالتعرف على انفسهم وبتجديد ثقافتهم، ويعرف المثقف ما حدوده حتى يستطيع التعرف على قوته... أنا هنا لا اخذ الامر على محمل الجد، أنا اتحدث عن مثقفين كل اهتمامهم هو ان يؤسسوا منظمات وصالونات يتداولون فيها امورا- لا اقول انها غير مهمة- ولكنها سطحية في الوقت نفسه. نحن بحاجة إلى تأسيس، إلى مؤسسات كان عليها ان تبدأ منذ زمن طويل، الآن يجب ان تبدأ نواتات جدية، واذا بدأت تعود الطبقة المتوسطة بشكل جديد. الظواهر الثقافية اعقد من هذا الشيء، على المثقفين ان يكونوا ضمائر، ليس عابرين، وليسوا باعة خضر... مثلما حدث بعد الاحتلال الانكليزي في العراق، إذ بلغت الشدة الطائفية حد العاصفة لو لا المثقف ورجال الدين المتنورين، الذي استماتوا ndash; على حد تعبير كامل الجادرجي- من اجل ان لا يقع أي خطأ طائفي.

* كيف نستطيع اعادة البنى الثقافية في ظل هذا الانهيار والفوضى التي انسحبت على كل الجوانب؟
- لنعترف ان الثقافة ليست خارج الكنى الاجتماعية والمؤثرات السياسية المباشرة. مشكلة التأسيس والمؤسسة، من الافضل ان لا تتدخل الدولة بشكل مباشر بالثقافة، واقصد بالقيادات الثقافية، للدولة مسؤولية دستورية في حفظ بعض مقاييس الذوق العام والعمارة وتأسيس المدن وحماية المبدعين من خلال القوانين... وحماية المشاريع الخاصة كالجمعيات الثقافية، وان تدعم بعض المؤسسات ذات النفع العام التي تؤثر في انعاش الذوق، كمؤسسات الرسم أو الموسيقى أو الرقص، وان تضع لوائح وقوانين تحمي استقلاق بعض المجموعات الثقافية.
مشكلتنا ان الدولة كانت مسؤولة عن كل شيء، ليس فقط تحركك، بل تراقبك على مستوى المضمون والشكل، احيانا بحجة الايديولوجيا كما منعوا الشعر الشعبي، وأحيانا بحجة الحفاظ على ما يسمى التراث أو التقاليد... مشكلتنا ان المثقف هو أما ان يكون موظفا، أو يحب ان منظم، ليس هنالك مؤسسات أو دور نشر أو مؤسسات أو اجهزة اعلام ممكن ان تحقق للمثقف شيئا من الوفرة المالية أو حتى لإرضاء غروره، لهذا يضطر للتقرب للدولة للظهور بمظهر أفضل كما يرى هو...
الآن الدولة اخف وطأة مما عرفناها بالسابق، ولكن لا استطيع ان أقول اننا قريبون من النموذج المراد، فالآن حرية التعبير أضيق مما كانت عليه قبل سنتين، وهذا ليس بمرسوم أو إجراء تقوم به الحكومة، ولكن هذا واقع الحال، إذ يمكن ان يهدد الشاعر أو الناشر أو حتى من يلبس ملابس من الناحية الثقافية تعد مناوئة للعرف أو الدين. وكل هذا يشكل نوعا من المضايقة ان لم يكن إرهابا لأن الأمور تصل أحيانا إلى القتل والتهديد. اهم ما يمكن ان تعمله الدولة للمثقف ان تقول له انني لست رقيبا عليك، وان يصدق المثقف بهذا الامر لأن الرقابة هي شكل من أشكال العقاب.