عليّة الأندلسي
حضارة الدولة الموحدية المغربية الأصل أسست إمبراطورية واسعة الأطراف ضمت العالم الإسلامي الغربي بأكمله، فساد الأمن والاستقرار أنحائها مدة طويلة وتفاعلت داخلها مؤثرات حضارية مختلفة شرقية ومغربية وأندلسية، وبفضل هذه المؤثرات انبثقت حضارة يانعة شملت الميدان التنظيمي والفكري والفني والاقتصادي؛ إذ كما ولع الخلفاء الموحدون بالفكر والثقافة شغفوا بالبناء المعماري والفني واهتموا بتشييد بنايات عديدة ذات فائدة اقتصادية أو عمرانية أو عسكرية أو دينية، ولا تزال بعض مآثرهم الخلابة قائمة شامخة إلى يومنا هذا تشهد على عصرهم الذهبي في الأندلس والمغرب.
ولقد تميز العصر الموحدي بالأندلس والمغرب بظهور حركة فنية مستقلة تتمثل في تلك المنشآت الكثيرة التي أنشئت خلال هذا العصر الزاهر، وتميزها بخصائص معمارية وفنية تشهد على تقدم الهندسة وعلومها، وعلوم الفن الزخرفي في هذا العصر، وكان الاهتمام بالعمارة والفن قد برز إلى الوجود منذ أواخر عهد عبد المؤمن الذي أمر بإقامة مدينة laquo;جبل طارقraquo; لتكون منزلا للخليفة والأمراء عند عبورهم إلى الأندلس [1] ، مما سيساهم في ظهور عبقرية بعض أعلام المهندسين الأندلسيين الأكفاء الذين سيكون لهم باع طويل في بناء المنشآت الموحدية بالأندلس والمغرب، أمثال المهندس أحمد بن باسة الإشبيلي والحاج يعيش المالقي، وهما من المهندسين الأندلسيين المشهود لهم بالكفاءة والخبرة في هذا الميدان وشاركوا في أعمال البناء والتشييد بالأندلس في عهد عبد المؤمن وابنه أبي يعقوب يوسف؛ أما من المغرب فقد ذكرت المصادر الغميسة اشتهار المهندس علي الغُمَارِي من قبيلة غُمَارة الموجودة بشمال المغرب، والذي قام ببناء مئذنة laquo;جامع إشبيليةraquo; الشهير بعد وفاة المهندس الأندلسي ابن باسة الإشبيلي الذي كان يشرف على أعمال البناء في قصور الخلفاء بمراكش وفاس وإشبيلية، ولقد كان لهؤلاء المهندسين الأكفاء الفضل في ابتكار أساليب فنية راقية للتغلب على التضاريس الصعبة التي امتازت بها أرض laquo;جبل طارقraquo; من أجل إنشاء المدينة التي أمر ببنائها الخليفة عبد المؤمن.
إن المتفحص لما خلفته الدولة الموحدية من مآثر فنية خلابة ليلمس مدى تقدمها في فن العمارة والزخرفة، ويؤكد بالملموس ما بلغته هذه الدولة المغربية من منزلة رفيعة في مجال الحضارة والفن الراقي حيث استطاع الموحدون بما أبدعوه من روائع وتحف تبوأ المقام السامي والمكانة المرموقة في تاريخ الفن الإسلامي، وبفضل جهودهم الجبارة في هذا المجال اعتبر بعض علماء الآثار القرن السادس الهجري قرنا بلغ فيه الفن المعماري الأوج والذروة بالغرب الإسلامي، ورغم أن الموحدين في بداية حكم عبد المؤمن كانوا يجتنبون الغلو في الزخرفة حيث كان فن البناء عندهم يتسم بالمتانة والخلو من الزخرفة سيرا على مبدأ ابن تومرت في التقشف والزهد في الدنيا؛ إلا أنهم ما لبثوا أن تشبعوا بالحضارة الأندلسية بعد أن فتحوا الأندلس، فطفقوا ينهلون من معين هذه الحضارة المتميزة واقتبسوا من جمال عمارتها وبدائع زخرفتها في أبنيتهم المختلفة، وتفننوا في ذلك ما شاءت لهم أريحيتهم الأصيلة.
ويعتبر عبد المؤمن أول من استفاد واقتبس من الحضارة الأندلسية الرائعة؛ إذ كان بطبيعته محبا للبناء والتعمير فقرر بناء أول مدينة بالمغرب وهي مدينة laquo;تازةraquo; التي اتبعت قبائلها دعوة الموحدين سنة (527هـ)، فأدرك عبد المؤمن بفطنته وحنكته السياسية موضع هذه القبائل الحربية، فعمد إلى إنشاء رباطا لجيشه على أرضها ثم شيِّد مسجدها وأقام عليها سورا سنة (529هـ)، وأمد عبد المؤمن رباط laquo;تازةraquo; بجيش كامل العدد والعدة فأضحى ndash;فيما بعد- حاميا لحدود المغرب الأقصى من جهة الشرق، وكانت تعتبر ممرا يصل بين مدينة فاس والمغرب الشرقي ولها دور المراقبة بين منطقة الريف والمنطقة الشرقية، ولعل عبد المؤمن أنشأها لهذا الغرض منذ سنة (538هـ).
ومن المدن الكبرى التي أنشأها هذا القائد الشجاع المغوار وسطر بنائها مدينة laquo;الرباطraquo; الذي كان الهدف من إنشائها أيضا هو رغبته في إقامة معسكر ضخم قريب من شمال المغرب لكي يستطيع نجدة الجيوش بالأندلس عند الضرورة والاقتضاء، فأقام laquo;قصبة الأودايةraquo; الشهيرة على مرتفع صخري وأنشأ بها مسجدا وقصرا ومدرسة، ثم شيّد بجانبها بناء كبيرا سماه laquo;رباط الفتحraquo; وأسكنه جنده، وجلب إليها المياه من العيون التي تبعد عنها بنحو من عشرين ميلا، وفي أخر المطاف أدار على الرباط ومنشآت الأوداية سورا حتى يحميهم من كل هجوم محتمل؛ والملاحظ على الموحدين أنهم كانوا يبنون المدن في المواقع الإستراتيجية التي تكتسي صبغة حربية، ومدينة laquo;تازةraquo; وlaquo;الرباطraquo; وlaquo;المهديةraquo; نماذج خلابة تشهد على ذلك.
لم ينس عبد المومن قرية laquo;تينملraquo; مهد الدعوة الموحدية من حيث البناء والتشييد، فقرر إكراما لذكرى المهدي بن تومرت ولما قدمته هذه القرية من دعم ومؤازرة للدعوة الموحدية منذ أن كانت جنينا أن يبني مسجدا بها في نفس المكان الذي بنى فيه المهدي مسجده المتواضع وأطلق عليه اسم laquo;جامع تنميلraquo;، ويعتبر هذا المسجد من أروع ما خلفه الموحدون رغم بساطة الزخارف التي يمتاز بها مقارنة بباقي المآثر التي شيدها الموحدون من بعد، فمئذنته كما تذكر المصادر التاريخية المعتمدة تختلف عن مآذن الموحدين الأخرى لكنها من حيث زخارف القاعدة تقترب من مئذنة laquo;جامع الكتبيةraquo;، كما أن محراب هذا الجامع من أجمل المحارب الموحدية وفيه تمثل الزخرفة الإسلامية المتناسقة الجميلة في سائر التكوينات الزخرفية.
ومن الآثار التي تركها أيضا عبد المؤمن شاهدة على ازدهار عصره المسجد الذي شيده بمراكش عقب فتحه لها سنة (541هـ) حيث أمر بصنع منبر هذا المسجد ومقصورته بالأندلس، إذ صُنع من العُود والصَندل الأحمر والأصفر، وصفائحه من الفضة والذهب، أما المقصورة فصنعت من خشب لها ستة أضلاع بحيث تستطيع أن تستوعب أكثر من ألف شخص، وكان الذي أشرف على صنع المنبر والمقصورة المهندس الضليع الحاج يعيش المالقي صاحب الأيدي البيضاء في المآثر العمرانية الموحدية الرائعة؛ كما أمر بإنشاء laquo;بستان مراكشraquo; العظيم سنة (552هـ) وقد ولى أمر القيام عليه وتنسيقه لأمير أندلسي صاحب منطقة laquo;الوادي آشيraquo; الذي كانت له خبرة واسعة بفن تنسيق البساتين quot;.. فزود بستان laquo;شنطوليةraquo; بسائر الغروس.. واجتلب من هذه الأنواع كثيرا من بلاد الأندلس مما لم يكن معروفا بالمغرب حينئد، فكان أول بستان فريد من نوعه، ولم يمض غير قليل من السنين حتى أصبح هذا البستان مصدرا من مصادر الاقتصاد بالمغرب..quot;[2] .
وجدير بالذكر أن الموحدين لم يتخلصوا نهائيا من التأثير البربري شأنهم شأن المرابطين، فظلوا يهتمون بعنصر القوة والضخامة في مبانيهم مع الأخذ والتأثر بالفن الأندلسي من حيث الزخرفة، ومن ثم امتازت آثار عبد المؤمن بعظمتها وضخامتها مع قلة الزخارف واعتمادها على خطوط متزنة توحي بالوقار، لكن هذا لم يمنع من تأثر الموحدين بباقي المأثرات الفنية السائدة كتلك التي كانت رائجة بالقيروان وطرابلس عند فتحهم للشمال الإفريقي، ومعلوم أن القيروان جمعت بين الفن المصري والفن العراقي[3] .
يستشف من سيرة الخليفة عبد المؤمن الموحدي أنه بقدر ما كان محبا للجهاد بقدر ما استفاد من التراث الإسلامي الأصيل سواء الذي وجده بالأندلس منبع العلم والأدب والفن، أو ذلك الذي صادفه الموحدون بالقيروان وطرابلس، فاندفع يقتبس من هذه الحضارة المتميزة وينشئ المساجد والقصور والصوامع والمدن، وسار على منواله كل من ولده يوسف وحفيده يعقوب المنصور الذي يعتبر أكبر معماريا بنَّاء في العصر الموحدي الزاهر؛ وبهذا استطاع الموحدون بفضل عنايتهم الفائقة بالفن والعمارة تركيز نوعا من التوحيد بين عناصر الفن الإسلامي التي امتزجت فيه معطيات الفن الأندلسي والقيرواني والشرقي والبيزنطي.
أما بالنسبة للأندلس الرطيب فظهرت عناية الدولة الموحدية البانية للفنون المعمارية خاصة ب مدينة إشبيلية عاصمة الأندلس إبان العصر الموحدي الذهبي حيث كانت مسرحا لأجمل وأهم المنشآت العمرانية الموحدية بالأندلس، منها جامعها الكبير الذي أسسه الخليفة يوسف بن عبد المومن (558-580هـ) وهو الخليفة الذي أنجزت في عهده معظم المشروعات المعمارية التي سطرت لمدينة إشبيلية، ولعل عناية الموحدين بإشبيلية كانت لكونها أكبر دولة الطوائف وعاصمة بني عبَّاد، ولكون الخليفة يوسف تلقى العلم بها وكان واليا عليها منذ كان والده يتولى الحكم، فحضيت بمحبته لها واهتمامه بها، فنتج عن ذلك شروع الخليفة يوسف بن عبد المؤمن في بناء جامع إشبيلية سنة (567هـ)، هدفه من بنائه أن يكون منافسا لجامع قرطبة الشهير، وعهد ببنائه إلى كبير المهندسين أحمد بن باسة الإشبيلي ومجموعة من البنائين والصناع الماهرين من أهل إشبيلية و فاس ومراكش، فأبدعوا أيما إبداع في هذا الجامع الشهير الذي جاء في أحسن وأبهى صورة وقد quot;.. قارب جامع قرطبة في الاتساع واهتم العرفاء ببناء القبلة وأودعوا فيها كل عبقريتهم، وصنع للمسجد منبرا من أجود أنواع الخشب ونقشت فيه الزخارف الرائعة، ورصع الصَندل مُجزعا بالعاج..quot;[4] .
ومن المنشآت التي أشرف عليها أيضا الخليفة الموحدي يوسف في إشبيلية quot;قنطرة إشبيليةquot; التي أمر ببنائها سنة (566هـ) من أجل إنجاز مصالح الناس ومن أجل إجازة الجند عليها، واختار الصناع للعمل بها والمهندسين لوضعها على النهر وتم ذلك سنة (567 هـ)، وبذلك استطاع أن يسهل وييسر الاتصال بين إشبيلية وربضها المعروف quot;بَطُرْياَنةquot;.
لم يفت الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الاهتمام ببناء القصور والدور خارج مدينة إشبيلية من أجل سكناه وسكنى أبنائه الأمراء، وجعل الإشراف على بنائها للمهندس الخبير وعمدة الموحدين في مشاريعهم العمرانية أحمد بن باسة الإشبيلي، وكان الخليفة عند اكتمال البناء يأمر بأن تختط فيما بين القصور وحواليها مساحات من الأرض تخصص لعمل الحدائق و يتم غرسها بمختلف الأشجار المثمرة من الزيتون والأعناب، وكان يعهد بإتمام هذا العمل إلى أبي القاسم أحمد الصوفي قاضي إشبيلية (توفي 588هـ)[5] ، ومن القصور التي أسست بإشبيلية quot;قصر البحيرةquot; سنة (567هـ)، والقصر الواقع خارج quot;باب الكحلquot;.
وعلى نفس الدرب سار ولاة الموحدين على الأندلس واهتموا ببناء القصور الفخمة في المدن التي حكموها وتفننوا في زخرفتها مما يدل على عظمة الحضارة المعمارية السائدة آنذاك، كما أقام الموحدون عددا لا بأس به من المنشآت العمرانية بمدينة العلم قرطبة وبعدة مدن أندلسية أخرى، واهتموا أيضا بتوسيع المدن وإنشائها وبناء الموانئ والحصون، والقلاع والقناطر في مختلف الجهات، وكانت أصداء هذه الحركة العمرانية الفنية الزاهرة تتردد في نفس الوقت بالمغرب في جميع جهاته المختلفة ابتداء من عاصمة ملكهم مراكش التي أولوها عناية خاصة منذ توليهم الحكم.
كان كل من عبد المؤمن وابنه يوسف قد اهتما اهتماما كبيرا بالعمران وبالفن وبالمنشأت العديدة الزاخرة على عصرهم الذهبي، فإن حفيده أبا يوسف يعقوب المنصور (580-595هـ) كانت له اليد البيضاء والباع الطويل في هذا الميدان حيث بلغ العمران ذروته وشأنه الكبير في عصره الزاهر، إذ يوصف بأنه أكبر بناء لذلك العصر وأنه كان محبا للبناء إلى حد كبير، وعهده لم يخل من مدينة يعمرها أو قصر يستجده، ففي عهده استبحر العمران بالمغرب وتقدم فن المعمار وفن الهندسة بتقدم حركة البناء بالأندلس والمغرب[6] ؛ ومن منشأته في بداية عصره على سبيل المثال لا الحصر ضاحية quot;الصبالحة الملوكيةquot; وقصورها الفخمة بعاصمة ملكه مراكش، وquot;قصبة مراكشquot; التي لا تزال قائمة تضم المسجد ومنارته.
كان للموحدين عناية خاصة ببناء القصبات في عدة مدن من المغرب، وبناء المساجد والصومعات والمنارات والقصور، إذ كان لهم ذوقا خاصا متميزا في البناء، وتشييد البنايات الضخمة ورفع الهياكل الخالدة الخلابة، مما ساعد على تطور فن البناء والتعمير لديهم، الشيء الذي دفع الجغرافيون يصفون المغرب في عهدهم بكونه بلد العمائروالخيرات ( عن عربيات ).
----------
1. عبد الملك ابن صاحب الصلاة، المن بالإمامة، تحقيق عبد الهادي التازي، ط:دار الغرب الإسلامي، ص:84-85.
2. علام.الدولة الموحدية بالمغرب، دار الإسكندرية، 1975م، ص:385.
3. للمزيد: إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، 1/340، ط:1، دار الرشاد الحديثة، 1984م.
4. عبد العزيز سالم، في تاريخ وحضارة الإسلام في الأندلس، ص:171-172، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، 1985م.
5. ينظر:يوسف الرعيني، الحياة العلمية في الأندلس في عصر الموحدين، مطبعة الملك عبد العزيز، 1995م، ص:382.
6. ينظر:محمد المنوني، العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، ص:243، ط:2، مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة، 1977م.
التعليقات