صممت الألمانية جيسيكا بورغنر - كار روبوتًا افعوانيًا منمنمًا، يتسلل عبر الأنف إلى الدماغ ويستأصل الأورام من دون الحاجة إلى فتح الجمجمة أو ثقبها.

ماجد الخطيب: اعتبرت مجلة الطبيب الألماني ابتكار الروبوت الافعواني الخاص بعمليات الدماغ ثورة جديدة في عالم الجراحة، إذ يتيح الروبوت مستقبلًا للجراحين بلوغ كل زاوية صغيرة كانت متعذرة في السابق على مبضع الجراح، كما يجنب المريض عمليات فتح الجمجمة أو ثقبها وصولًا إلى الأورام الصغيرة. وهذا يعني اختصار الكثير من الوقت والجهد، وبالتالي انقاذ حياة المريض.

يسلخ حبة العنب

استعرضت المجلة فيلمًا صغيرًا يصور تسلل الروبوت الافعواني من الأنف وحركته داخل دماغ "افتراضي" في عملية محاكاة على الكومبيوتر، اضافة إلى فيلم آخر يصور "الجراح الأفعواني" يسلخ حبة عنب عن جلدها بدقة تامة من دون أن يضر بمادة العنب. وواضح أن مثل هذه التقنية سرعان ما ستنتشر إلى الفروع الجراحية الأخرى، مثل الأمعاء والأنف والاذن والحنجرة...إلخ، لكن الباحثة الألمانية صممته، لأسباب شخصية، لمكافحة أورام الدماغ.

صنعت جيسيكا بورغنر-كار الروبوت الافعواني الدقيق من مادة غاية في المرونة تتيح له الحركة بعناية داخل الدماغ، وتسهل عملية السيطرة عليه عن بعد بواسطة الجراحين. والمهم أيضًا هي امكانية تصليب مادة الروبوت الافعواني ومن ثم اعادتها إلى مرونتها الأصلية، باستخدام تقنيات ومواد بسيطة، بحسب إرادة الجراح. وذكرت المبتكرة الشابة (34 سنة) أنه من الممكن التلاعب بمرونة الروبوت الافعواني باستخدام مسحوق القهوة العادية بفعل عملية تفريغ هوائي.

سبب شخصي

يحتوي جسد الروبوت الأفعواني الرقيق على غرف صغيرة جدًا تحتوي على مسحوق القهوة. حين يضخ الجراح شيئًا من الهواء داخل تجويف الروبوت يختلط الهواء بذرات القهوة ويمنح جسد الروبوت مرونة اضافية. حين يمنع الجراح الهواء ينشأ فراغ هوائي داخل جسد الروبوت فيتصلب. وهكذا يستطيع الجراح التلاعب بمرونة الروبوت بحسب مساره وتضاريس المنطقة التي يخترقها.

نالت بورغنر-كار دعم مفوضية الاتحاد الأوروبي لتطوير جهازها الدقيق، وتقول إنها كانت تريد أن تصبح جراحة كي تساعد الناس، إلا أن وفاة عمها وهي بسن 17 سنة بسبب ورم في الدماغ، دفعها لدراسة الهندسة التقنية والمعلوماتية بهدف المساعدة في ابتكار طريقة جراحية جديدة للدماغ.

وواقع الحال أن العم وافاه الأجل بسبب خطأ طبي-تقني أثناء معالجة ورمه الدماغي بالأشعة، إذ سلط الأطباء الأشعة على جزء سليم من الدماغ بالخطأ، ما شدد عزيمتها على دخول مجال صناعة التقنية الطبية.

افعوان بذراعين

زودت الباحثة الروبوت المنمنم بذراعين صغيرتين تتولى عملية استئصال الورم، باشراف الجراح، دون المساس بالمادة الحية السليمة. وصممت الافعوان من أنابيب غاية في الدقة تدخل وتخرج داخل بعضها مثل مستقبل الراديو أو التيليسكوب. اما مادة الأنابيب فصنعتها من سبيكة خاصة "ذكية" من التيتان والنيكل، منحت الأنابيب القدرة على التوسع والتضيق والتمدد والانقباض، ثم العودة إلى الشكل الأساسي.

ولم تصنع بورغنر-كار روبوبتها الافعواني من مقاس واحد لمعرفتها أن حجوم وخصائص أدمغة البشر تختلف عن بعضها، لذلك طورت برنامجًا إلكترونيًا يعمل بمساعدة الكومبيوتر، ويتيح للجراحين تصميم مادة الروبوت الطرية بحسب مواصفات وتضاريس دماغ كل مريض.

ويمكن الجراح حساب كافة مواصفات دماغ المريض على الكومبيوتر، وكذلك "خريطة الطريق" الاسهل للوصول إلى الورم الدماغي، ومن ثم ادخالها إلى عقل الروبوت الافعواني الصغير.

محركان منمنمان

ليس هناك مفاصل في الروبوت الافعواني، لكن الباحثة الشابة زودت كل أنبوب من أنابيبه المتداخلة بمحركين، يعمل الأول على مد أو تقصير الافعوان بحسب الانعطافات داخل الدماغ، ويعمل الثاني على تدويرها وتوسيعها أو تقليصها.

وتمت حتى الآن تجربة الروبوت الافعواني على "أدمغة افتراضية" على الكومبيوتر وثبتت كل مرة قدرته على بلوغ كل زاوية من زوايا الدماغ واستئصال المادة السرطانية من دون أن يلحق ضررًا بالدماغ. وطبيعي ستحتفظ الباحثة بهذه التجارب الافتراضية كي يجري الجراحون تدريباتهم عليها قبل استخدام الروبوت للمرة الأولى.

وكي لا يرتكب الروبوت، أو الطبيب، خطأ توجيه الروبوت إلى مناطق خطرة في الدماغ، أو إلى مناطق سليمة منه، زودت الباحثة نظام السيطرة الإلكتروني على الروبوت بمناطق "محظورة"، يمكن برمجتها قبل العملية. وهناك مناطق "شبه محظورة" أيضًا، لا يمكن للروبوت اختراقها إلا بموافقة الطبيب.

تيسير العمليات

يقل سمك الروبوت الأفعواني عن ميليمتر واحد، لكن أنابيبه، ورغم المحركات المنمنمة، تتسع لمرور أسلاك غاية في الدقة، يحمل أحدها كاميرا إلكترونية منمنة تتيح للطبيب مراقبة عمل الروبوت وتوجيهه، وينتهي السلك الثاني بـ"مجرفة" تتولى امساك ونقل الخلايا الميتة الي تستأصلها الذراعان، إلى الخارج. وهناك سلك ثالث يعمل على امتصاص الدم والقيح الخارجين عن الورم، كما يمكن مد اسلاك أخرى لتأدية وظائف أخرى.

من الأورام الهامة التي يمكن للروبوت الأفعواني أن يسهل بلوغها بالنسبة لجراحي الدماغ هي أورام الغدة النخامية التي تقع خلف الأنف. وتشير أحصائية معهد روبرت كوخ الألماني إلى 1000 عملية خطرة من هذا النوع تجري في ألمانيا سنويًا، ويفشل الكثير منها بسبب عسر عملية بلوغها بدقة. ويضطر الجراحون في نصف هذه العمليات إلى فتح ثقب في جبهة للمريض للمساعدة في عملية استئصال ورم الغدة النخامية عتن طريق الأنف.

مغامرة

المجال الثاني المحتمل لعمل الروبوت الافعواني هو سرطان "الأورام الدبقية"، الذي يعتبر من أكثر الأمراض السرطانية الدماغية عدوانية، ولا تعيش لمدة 5 سنوات، بعد العلاج، سوى نسبة 5% من المصابين به. وتتكاثر خلايا هذا الورم السرطاني بسرعة كبيرة وتتسبب بحدوث نزيف دموي في الدماغ. وبحسب معطيات مركز الأبحاث السرطانية في هايدلبيرغ يصاب 3500 ألماني بهذا المرض سنويًا.

ومعروف، بحسب إحصائية وزارة الصحة الألمانية، أن الإصابة بأورام الدماغ تنتشر بين المواطنين بنسبة 9,2 لكل 100 ألف مواطن. وتقترب هذه النسبة من نسبة احتمال الفوز ببطاقة يانصيب في بعض السحبات في ألمانيا، ولهذا فهي تنطوي على مغامرة ومجازفة مماثلة. ومشكلة أورام الدماغ أن احتمال عودتها للنمو مجددًا كبير، وهو ما يدفع البروفيسور بيرنهارد ماير، جراح الدماغ من جامعة ميونخ، إلى مقارنتها بسحوبات اليانصيب.

جائزة

نالت جيسيكا بورغنر-كار جائزة هاينز كاير ليبنتز للابتكار التي تخصصها الدولة الألمانية للابتكارات في مجال الطب، كما ستنال مبلغ 20 ألف يورو لتسهيل عملها، وخصوصًا عند البدء بالانتقال من مرحلة التجارب على الأدمغة الأفتراضية إلى مرحلة التجارب على أدمغة الحيوانات. وتقدر الباحثة الحاجة إلى 5 سنوات أخرى من التجارب قبل الاقتراب من أدمغة البشر بواسطة روبوتها الأفعواني.

وتبدو الباحثة الشابة واثقة تمامًا من عمل روبوتها الأفعواني رغم انه ما يزال في مرحلة التجارب على الأدمغة الافتراضية. وقالت لصحيفة الطبيب الألماني أنها مستعدة منذ الآن، لو أصيبت بورم دماغي، لتسليم رأسها إلى الروبوت، وتجد ذلك أفضل بكثير من فتح جمجمتها.