في مدينة "بوزنان" الواقعة في غرب بولندا، وفي قلب المدينة في ميدان الحرية، أشار لنا مرافق الرحلة البولندي تحديدا إلى مبني المسرح الوطني الضخم في المدينة وقال: هذا هو المسرح الشعبي البولندي الذي شيده البولنديون سنة 1875 بعد أن جمعوا التبرعات من جموع الشعب لبنائه، وأرادوا من وراء ذلك أن يكون رمزا لهويتهم في مواجهة المسرح الألماني الذي شيده الألمان إبان احتلالهم للمدينة في عهد القيصر وليم الثاني، واقتصر دخوله على الألمان فقط ومنع البولنديون من دخوله بحجة عدم معرفتهم باللغة البولندية!

كانت الإمبراطورية الألمانية في عهد وليم الثاني قد ضمت أجزاء كبيرة من بولندا، وتم فرض اللغة الألمانية في المدارس علي الأجزاء المحتلة، وقد يبدو أن هذا الأمر عاديا للبعض في ظل الاحتلال، لكن غير العادي أن ساحة الحرية في "بوزنان" هذه شهدت أول معركة ثقافية في أوروبا استمرت أكثر من 120 عام، حاول فيه الألمان طمس الهوية البولندية، لكن البولنديون كانو يدافعون عن هويتهم ويكرسون جهودا مضاعفة للتمسك بلغتهم وتعليمها لاطفالهم.

الحقيقة أن ثمة شوارع أو مباني لا يمكن أن تغفلها في رحلاتك، أو في ذهابك ومجيئك، فهي تحكي الواقع أكثر من كتاب مفتوح أو من فيلم تسجيلي، وقد تفاجئ بقصص لها دلالة وعمق في الفن والسياسة دون أن تنتبه لذلك، لهذا كنت شديد الحرص إلى شرح المرافق في ميدان الحرية وهو يشير إلى مباني مختلفة يجمعها كلها ميدان واحد، لكن لكل واحد منها قصة في مقاومة الغزو والتمسك بالهوية، فهو يقول هكذا عاد البولنديون لجمع مزيد من الأموال وتم بناء المكتبة الوطنية هذه المرة بجوار المسرح الوطني تحديا لسخرية الألمان التي كانت تستهين بهم وبسعة اطلاعهم، واستمرت الحرب الثقافية واستمروا في جمع التبرعات وتمكنوا من بناء المتحف الوطني بعد ذلك بجوار المكتبة، ثم أخيرا أهم مبني ثقافي سمي "البازار" واعتبر رمزا لمقامة الاحتلال بالثقافة والتعليم والحفاظ على الهوية الوطنية آئنذاك، وكان مقرا للنشاطات الثقافية والتجارية طيلة فترة المقاومة، وفي هذا المبني كانت الاجتماعات لاتتوقف، ومن أهما وقتها هو اتخاذ قرار إغراء الطلاب البولنديون الذين كانوا يذهبون للدراسة الجامعية في برلين ولا يعودون بالعودة والحصول علي امتيازات عديدة.

والآن أصبحت هذه المدينة التي لا يتعدى سكانها نصف مليون نسمة بها ثالث أكبر الجامعات في بولند وهم يقولون إن بها 8 أكاديميات كبيرة للفن والطب والموسيقي والزراعة وغيرها، وهم فخورون بأن المدينة تتضمن تجمعا طلابيا يصل إلى 130 ألف طالب من كل أنحاء العالم.

لا شك في أن التجول في تلك المدينة الصغيرة أنعش الذاكرة بأحداث كثيرة، ففي ساحة الحرية هناك نصب تذكاري كبير لأول انتفاضة سنة 1956 ضد الحكم الشيوعي في البلاد، ورغم أن الانتفاضة لم تدم طويلا لأنها لم تستمر أكثر من يومين، سحقت القوات الروسية معززة بالدبابات، وجنود بولنديون تابعين للنظام الشيوعي الانتفاضة وقتلت 70 فردا بينهم طفل عمره 13 عاما.

الحقيقة أن التاريخ الأوروبي فيه الكثير من التعقيدات الشديدة بسبب الحروب التي لم تتوقف، وصور الحروب تراها في كل مبني وميدان، وفي كل مكان في أوروبا، وفي وارسو رغم أن هناك العديد من النصب التذكارية التي تسجل نشاط المقاومة ضد القوات الغازية وآخرهم كان الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية ثم بعده الاحتلال الروسي، فإن الفنادق أيضا في العاصمة وارسو تتميز بطابع ثقافي يلفت النظر فهي تعرض الكثير من الفنون داخل الردهات وغرف الضيوف، ففي إحداها رأيت لوحه أصلية لبيكاسو، وفي فندق "رافلز أوروبيسكي وارسو" كأن الفندق متحف مفتوح، فحجراته تتميز بوجود مكتبة إضافية بها مجموعة من الكتب المختلفة بعدة لغات، والغريب أن هذا الفندق الذي شيد سنة 1857 أصبح جزء من تاريخ وارسو فهو مزين بلوحات أصلية لفنانين بولنديين معاصرين أو قدماء مثل آندا روتنبيرغ، وباربرا بيوفارسكا علي سبيل المثال، لكن أهم شئ في الفندق أيضا هو تجهيز شرفات خاصة تطل علي ساحة "بليسودسكي" التاريخية وقد زينت بصور تحكي تاريخ الهزائم والانتصارات في بولندا، من هذه الشرفات سيصبح بامكانك متابعة كل مايدور في الساحة لا سيما استبدال الحرس والطقوس المصاحبة لذلك.

تعجبي تلك المدن التي تحتفظ بالتاريخ في جنبات شوارعها وأزقتها، وهو ما كان واضحا جدا في وارسوا خاصة قلب المدينة القديم، فالقصور القديمة التي تهدمت في الحرب العالمية الثانية تم إعادة بنائها بشكل يحاكي لبنتها الأولي، وهي مفتوحة للزوار من جنسيات العالم المختلفة للتعرف على تاريخ دولة من أغرب قصص التاريخ في العالم فكلما أعلنت استقلالها من محتل يتم احتلالها من محتل جديد، أما آخر تلك الاستقلالات هو ما تم سنة 1989 بعد ما تخلصت بولندا من الشيوعية.

لا يمكن أن تكتفي في وارسو بمشاهدة تاريخ الفنون والحروب والثقافة وألوان الطعام المختلفة المحلية لاسيما حساء الشوربة السوداء المصنوعة من دم البط والتي قد لا تجعلك تقترب منها عندما تعرف مكوناتها من الدم، أو الشوربة بالبيض داخل الخبز، وألوان عديدة من الأطعمة المختلفة، لكن أيضا لاننسي زيارة بيت العالمة المعروفة ماري كواري" 1867ـ 1934 "التي ولدت فيه وتحول الآن إلى متحف خاص بها وبأبحاثها العالمية، فهي قد حصلت علي جائزة نوبل مرتين، واحدة في الكيمياء والآخرى في الفيزياء، وهي العالمة الوجيدة التي حصلت علي نوبل في فرعين مختلفين، وإليها يرجع الفضل في اكتشاف الاشعة السينية، واكتشاف عنصري البولونيوم الذي سمته علي إسم بلدها وعنصر الراديوم، وتحت اشرافها تم اجراء أول دراسة لمعالجة الآورام بالنظائر المشعة، وفي وارسو مازال معهد كوري الذي أسسته واحد من أهم مراكز الأبحاث في بولندا، عموما يعيد التاريخ نفسه، وبما أننا علي أعتاب توترات جديدة علي الحدود البولندية البلاروسية، والخوف من تعاظم قوة روسيا بما يهدد جيرانها، فالناس لايرغبون في اعطاء رأيهم في الأحداث السياسية الجارية، لأنهم يقولون نحن لانعرف القادم خاصة أن بولندا احتلت أكثر من مرة وقسمت من قبل إلى أربع أجزاء تتبع الدول الأوربية المجاورة فلا أحد يدري كيف سينتهي هذا الصراع الروسي الأوروبي الحالي؟!