بيروت: ليست الأزمة الإقتصادية العالمية هي العامل الوحيد الذي أثر على سوق الحفلات الفنية في الوطن العربي، فالمتابع جيداً يعلم بأنه ومنذ سنوات وحال سوق الحفلات الفنية في تدهور مستمر.
فصورة النجم الواحد الذي يعتلي المسرح ويملأه بالآلاف إختفت ولم تعد واردة اليوم الا في المهرجانات الفنية التي تقام بدعم حكومي أو بدعم شركات تجارية كبرى ويكون الدخول اليها مجاني.
مالذي حدث وما الذي تغير بين التسعينات من القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة ليعزف الجمهور عن نجومه؟
دون شك العامل الإقتصادي يعتبر هو العامل الأساس، فلم يعد بمقدور رب الأسرة من متوسطي الدخل أن يأخذ عائلته لحضور حفل فني يبدأ سعر التذكرة فيه من 150 أو 200 دولار ويصل الى 800 او 1000 دولار (متوسط أسعار التذاكر اليوم للحفلات التي تقام في فنادق الخمس نجوم).
الملل هو العامل الثاني فمع كثافة الفضائيات الغنائية التي يتجاوز عددها المئة قناة فضائية غنائية متخصصة، تنتشر على مختلف الأقمار،بالإضافة الى الفوضى الغنائية التي غزت المشهد الفني في الأعوام العشر الماضية، حيث أًصبح الغناء وظيفة من لا وظيفة له، وصل المشاهد الى مرحلة الإشباع وربما الملل أو القرف من المشهد الغنائي ككل، ولم يعد يعنيه كثيراً أن يذهب لرؤية الفنان يغني على المسرح لطالما أن حفلات هذا الفنان المسجلة تبث على المحطات التلفزيونية، وحضور هذا الفنان متكرر عبر البرامج الترفيهية الغنائية مثل ليالي السمر و تاراتاتا وغيرها، أو عبر برامج إكتشاف المواهب مثل ستار أكاديمي، وسوبر ستار، أو عبر برامج الواقع التي لا علاقة لها بالغناء مثل الوادي أو بيرفكت برايد الخ.
والمشكلة أن العاملين في حقل تنظيم الحفلات لا يملكون الرؤية أو الجرأة الفعلية لتدارك التغيرات التي تطرأ على السوق ومعالجتها، فالفنان اليوم أضحى مغني الخاصة، لا يغني الا للشيوخ والأمراء والرؤساء والأثرياء، فنجوم الصف الأول (مع بعض الإستثناءات) إبتعدوا في السنوات الماضية عن المهرجانات الشعبية التي كانت تقام في الضيع والبلدات اللبنانية مثلاً، ويتحلق جمهور بالآلاف حول نجومه يرفعهم الى السماء، لأن الدخول الى هذه المهرجانات مجاني وما لم تكن الحفلة مدعومة من سياسي ما أو زعيم فالغناء يفترض أن يكون مجاني.
المفارقة أن الفنانين الكبار بإبتعادهم عن هذه المهرجانات لأنها باتت غير مجدية مادياً سمحوا للنجوم الشباب بالحلول محلهم وبالتالي ساهموا بأنفسهم في خلق منافسين لهم.
ففي السابق كانت هذه المهرجانات تحقق لهم الشهرة والإنتشار، أما اليوم فهم يملكونها وليسوا مستعدين للغناء ببلاش، ونسوا أن الشهرة التي تحققت لهم لأنهم كانوا على تواصل مباشر مع الجمهور الشعبي الواسع، وعندما إبتعدوا عنه إبتعد عنهم.
الفنان اليوم يتوجه بفنه حيث توجد رؤوس الأموال ففي التسعينات مثلاً كانت مصر قبلة الفن العربي وكان الفنانون العرب يتسابقون للغناء باللهجة المصرية للفوز بالحفلات الفنية هناك، اليوم السوق المصري في ركود والمال موجود في الخليج، فنجد أنهم يتجهون بفنهم اليوم لهذا السوق ويتسابقون على الغناء باللهجة الخليجية ليحجزوا لهم موطيء قدم في الحفلات والمهرجانات الخليجية، التي كانت سخية حتى إنهارت الأسواق المالية في العالم، وضربت تداعيات هذا الإنهيار السوق الخليجية إيضاً.
وحتى متعهدي الحفلات في لبنان فهم يتوجهون بتركيبة حفلاتهم الى الجمهور الخليجي الذي يقصد لبنان، ولا يبالون بالجمهور اللبناني لأنه quot;مش دفيعquot; بإستثناء الطبقة المخملية طبعاً. وغاب عن هؤلاء أن الجمهور الشعبي يبقى هو الأساس وعليك أن تذهب اليه بدلاً من أن تحاول إقناعه بالقدوم اليك. والمهرجانات اللبنانية لا تلقى بالاً للفنان اللبناني أو العربي وتتوجه لإستقطاب فناني الغرب بتركيبة باتت مملة ومكررة وتخلو من روح التجدد أو التطور لأن القائمين على تنظيم هذه المهرجانات يعملون بنفس العقلية منذ عقود.
والسؤال أين سيذهب الفنان العربي اليوم؟ ولمن سيتوجه بفنه؟ ولأي سوق؟ ولمن سينظم متعهدي الحفلات حفلاتهم؟
ربما يكمن الحل في تغيير شكل الحفلات الفنية في السوق العربية، والتوجه الى خلطة تضمن التواجد الجماهيري الشعبي بأسعار تذاكر رمزية، ففي أوروبا أميركا عندما تقوم مادونا أو بيونسي بجولة تقام هذه الحفلات في ملعب كبير، ويرافقها عرض بصري مبهر، ويكون سعر التذكرة مناسباً لمتوسطي الدخل وحتى لمحدودي الدخل أحياناً، وبالتالي تحقق هذه الحفلات حضوراً جماهيرياً ضخماً.
ربما على كل من المتعهد والفنان التفكير في مسألة تقليل الظهور المتكرر للفنان في نفس البلد في ظل معادلة السوق الحالية، الذي يحرقه لدى جمهور الخاصة، ويبعده عن الجمهور الشعبي. وحصره في ظهور واحد او إثنين للخاصة في العام، ولمهرجان كبير يقام في الأماكن المفتوحة صيفاً. أو في الملاعب المغللقة شتاءاً ورفع أجر الفنان عن هذه الحفلات بشكل يعوضه عن الظهور المتكرر الـ quot;بلا طعمةquot; ويحقق الربح للمتعهد ويخرج الجميع رابحون.
وعلى الفنان أيضاً الإجتهاد لتقديم جديد يجذب الجمهور الذي مل من متابعة الفنان واقفاً في محلة يغني، فاليوم الجمهور يبحث عن الإبهار البصري والذي لا يتوفر لدى الفنانين العرب.
وربما على متعهدي الحفلات إنشاء رابطة لتنظيم السوق والوقوف بوجه الإحتكار، والمنافسة الغير شريفة، والعمل بصيغة الشراكة بين المتعهدين لتحقيق الربح للجميع، بدلاً من تحويل السوق لساحة حرب يحاول كل منهم ضرب حفلات الثاني لإنهاءه والإستثئثار بالسوق لنفسه، وتكون النتيجة خراب يعم على الجميع.