لا يستبعد العلماء السويسريون أن ينهي نيزك كبير قادم من عمق الكون اللامتناه الحياة على الأرض، أو أن تمحو حرب نووية مجنونة البشر عن الكوكب الأزرق. لذلك، فكروا في طريقة مضمونة لحفظ منجزات البشرية لمليون سنة تلي الكارثة.


ماجد الخطيب: تحدث العلماء السويسريون عن ابتكارهم طريقة جديدة لحفظ المعلومات تضمن عدم اختفائها أو تغيرها حتى الأبد، بحسب تعبيرهم. وتتلخص الطريقة في حفظ هذه المعلومات، التي تشمل كامل انجازات البشر وتاريخهم، داخل حمض نووي رقمي لا يقل سعة في حفظ المعلومات عن الحمض النووي البشري. والحمض النووي الرقمي محاكاة صناعية لسلاسل الحمض النووي، وطريقة حفظ المعلومات عن الإنسان داخل خريطته الوراثية.

بعد الحضارات البائدة

يعمل العلماء على كتابة البيانات بشكل سلاسل حمض نووي، ثم يحفظونها داخل نماذج بشرية حقيقية من الأحافير أو البقايا المنقرضة. ويمكن للإنسان الذي ينهض بعد آلاف السنين من ركود الغبار الذري (بعد الحرب النووية) أن يستخلص المعلومات بسهولة من هذه البقايا، كما يمكن لأقوام من الكواكب الأخرى، الذين قد يصلون الأرض يومًا، أن يستعيدوا هذه المعلومات كي يعرفوا شيئًا عن الحضارات البشرية "البائدة".

وواقع الحال، تقنية حفض المعلومات في الحمض النووي ليست جديدة، ومستخدمة بشكل محدود في تقنيات المعلومات. إلا أن علماء جامعة زروخ التقنية جردوها من مثالبها المعروفة، إذ من المعروف، وبحسب التجارب العلمية، أن طريقة الحفظ داخل الحمض النووي غير مضمونة سوى لبضعة آلاف من السنين. كما ثبت أن عملية استعادة المعلومات منها لا تجري دون أخطاء وودون فقدان بعض هذه البيانات أو تشوهها. ويقول علماء زيورخ الآن إن طريقتهم تضمن حفظ المعلومات واستعادتها بعد مليون سنة من دون أن تتأثر أو تتغير.

وداعًا لأقراص المعلومات

لم تصمد أقراص "سي دي" طويلًا، في عالم حفظ المعلومات السريع التطور، أمام زحف "يو أس بي ستيك". وبعد أن كانت ذاكرة الكومبيوترات الأولى قبل 50 سنة محدودة، صار العلماء ينتجون الأقراص الثابتة العملاقة التي تحفظ بلايين المعطيات، إلا أن مثل هذه التقنيات لا تكفي لحفظ كامل تاريخ ومنجزات البشرية، ولهذا يحاول العلماء محاكاة حفظ المعلومات في الجسم البشري (الحمض النووي) كطريقة لحفظ هذا الكم الهائل من المعلومات.

وثبت حتى الآن أن الأحماض النووية الرقمية تتغير تركيبتها الكيمياوية البيولوجية مع مرور الزمن، وبالتالي قد يفقد الكثير من المعلومات المهمة. كما قد يصعب استرجاع البيانات المحفوظة فيها بسبب هذه التغيرات. هذا ناهيكم عن أنها عرضة للعطب أو التأثر بالظروف القاسية التي قد تلي الكوارث العظيمة.

كبسلة المعلومات

وذكر الباحث السويسري روبرت غراس، من قسم العلوم الكيمياوية والبيولوجية التطبيقية في جامعة زيورخ، أنه عمل على كبسلة الحمض النووي الخازن للمعلومات داخل كبسولات. وتم إنتاج هذه الكبسولات المقاومة للظروف والزمن من أوكسيد السيليكون الذي يكوّن الزجاج الاعتيادي، ولكن بعد إجراء التغييرات اللازمة عليه. وأهّلت هذه الكبسولات الحمض النووي للصمود أمام عوامل المناخ والزمن لفترة طويلة تزيد عن مليون سنة.

كما زود غراس وزملاءه الحمض النووي الرقمي بآلية حديثة للتصحيح الذاتي تتولى تصحيح أي خطأ أو تغيير قد يطرأ على البيانات المخزونة داخل "دي أن آيه" المكبسلة. وهذه الآلية ليست أكثر من"طريقة حساب" (الغوريثم) تصحّح تلقائيًا أي خطأ قد يحصل عند قراءة البيانات واستعادتها مهما طال الزمن.

داخل العظام

بدأ علماء زيورخ دراساتهم على الحمض النووي الرقمي منذ سنتين، واكتشفوا أن الأخطاء تحصل عند استعادة المعلومات من هذا الحمض النووي رغم مرور دقائق فقط على وقت تحميلها. وتوصلوا إلى أن هذه الأخطاء تزداد مع مرور الزمن وتغير معها التركيبة الكيمياوية البيولوجية للحمض النووي، وفكروا منذ ذلك الوقت في طريقة لمنع وقوع هذه الأخطاء والتشوهات عند حفض المعلومات لآلاف السنين.

تمت بعد ذلك عملية كبسلة الحمض النووي داخل غلالة من أوكسيد السيليكون ومن ثم حفظها داخل أحافير عظمية، وثبت أن الطريقة يمكن أن تحفظ المعلومات بأمان لآلاف السنين. ويقول غراس أن العظم الطبيعي عمل مثل "درع" طبيعي لحماية الكبسولات من التأثر بالمحيط الكيمياوي والبيلوجي حولها.

100 سنة

قبل ذلك، حفظ العلماء الحمض النووي المكبسل داخل مفاعل بدرجة حرارة 60-70 درجة مئوية لمدة شهر. وهي طريقة علمية لمحاكاة تأثر الكبسولات بالحرارة والمواد الكيمياية والظروف الأخرى على مدى 100 سنة. وثبت بعد ذلك أن الكبسولات صمدت أمام التجربة ونجح العلماء باستعادة المعلومات 100% من دون أن تتأثر. ولم يكن قطر الكريات السيليكونية يزيد عن 150 نانوميتر، وتم تصنيعها خصيصًا في مختبرات جامعة زيورخ التقنية.

ويقدر العلماء، على أساس المناخ السائد في أوروبا، أن تصمد كبسولات الحمض النووي الرقمية مدة 100 ألف سنة دون أن تتأثر بالمناخ القاري. ولأن العلماء يتوقعون أن تؤدي كارثة نووية أو طبيعية إلى انخفاض درجات الحرارة وسيادة عصر جليدي جديد على الأرض، فإن هذه الكبسولات قادرة، عند مقارنتها بنتائج بتجربة الحفظ في 60-70 درجة مئوية، على الصمود لفترة مليون سنة. هذا في حين أن أحدث طرق حفظ المعلومات وصيانتها اليوم لاتضمن هذه المعلومات لأكثر من 500 سنة.

رقم خارق

عرف العالم محاكاة الحمض النووي في حفظ المعلومات، أو الحفظ البيولوجي بدلًا من الحفظ الآلي للبيانات، منذ العام 1988. وكان السويسريون متقدمين فيها منذ ذلك الحين، وهي طريقة مبنية على أساس قدرة الحمض النووي على حفظ كم هائل من المعلومات.

فالعالم يواجه اليوم مشكلة حفظ المعلومات بعد أن سهلت الشبكة العنكبوتية والتقنيات الرقمية الأخرى مهمة نقلها وتبادلها. وتقول مصادر جامعة زيورخ إن 3000 مليار بايت من البيانات والمعطيات يجري تبادلها داخل الشبكة العنكبوتية على المستوى العالمي. ولا شك أن هذا الرقم الهائل من المعلومات يتطلب طرقًا جديدة تستوعبها وتحفظها لفترات طويلة.

يوفر عدد قليل من كبسولات الأحماض النووية الرقمية إمكانية حفظ 100 مليون ساعة من الأفلام العالية الكثافة والجودة، بحسب تقديرات العالم روبرت غراس. وتكون بالتالي مثالية لحفظ الرقم الخارق من المعطيات الذي قد يعبر عن كامل تاريخ البشرية ومنجزاتها.

12600 دولار لكل ميغابايت

ويقدر العلماء، في الوقت الحالي، كلفة خزن المعطيات وتشفيرها وترتيبها في الأحماض النووية المكبسلة بنحو 12600 دولار لكل ميغابايت. وربما ترتفع كلفة أرشفة وتحفيظ كامل تاريخ البشرية إلى مبلغ هائل من المال، لكنه مشروع يستحق الجهد والمال المبذولين فيه. ويمكن لصندوق مالي عالمي أن يوفر إمكانية حفظ هذا الكم الهائل من المعلومات على مدى عدد غير معروف من السنين، لكنه مشروع قابل للتحقيق.

أسست معظ الدول الغربية المتقدمة مصارف تسمى مصارف "دي أن آيه" تتولى حفظ وأرشفة الأحماض النووية لمختلف الأحياء النباتية والحيوانية التي تعيش على كوكب الأرض، وهي عملية بدأت منذ سنوات وقد تستمر إلى زمن لن تشهده أجيالنا، لكنها خطوة هامة على طريق كتابة تاريخ البشر وكوكبهم. ويمكن لهذه البنوك أن تكون قدوة يحتذى بها لتأسيس مصارف حمض نووي رقمي تتولى منذ الآن جمع المعلومات وتخزينها.

وصف غراس وزملاؤه طريقة الحفظ في الحمض النووي بأنها "حفظ أبدي للبيانات"، في حين وصفت منظمة يونسكو هذا الأنجاز بالرائع، وأطلقت على حفظ كامل المعلومات عن البشر والأرض اسم "ذاكرة العالم".