&
يعتقد الصينيون بوجود علاقة بين ميول الفرد الادخارية وقواعد لغته الأم، وطبق الباحث الاميركي الصيني كيث تشين ذلك بنجاح على اقتصاد الأمم والشركات.

&
يقال إن الشرقي، عندما يحسب بأصابعه، فإنه يفتح يده ثم يبدأ ضم الأصابع الواحد تلو الآخر في قبضته بدءًا من الخنصر، في حين عندما يعد الأوروبي بأصابعه فأنه يضم قبضته ثم يبدأ بفرد أصابعه الواحد بعد الآخر بدءًا من الابهام. هل تعبر هذه الحال عن ميل الشرقي إلى البخل وميل الأوروبي إلى بسط يده؟
يعتقد الكثيرون أنها مجرد عادات قديمة، واشارات لا علاقة لها بميل الإنسان للبخل، لكن الباحث كيث تشين، من جامعة ييل الأميركية، يرى علاقة لقواعد اللغة الأم بميل الإنسان للتقتير أو الادخار.
&
مستقبل وادخار
يقول تشين إن صيغة "المستقبل" في أية لغة تقرر ما إذا كان أفراد هذه الأمم ميالين إلى الادخار أو التبذير وسوء التدبير. وعلى هذا الأساس، فميل الانجليز والاميركيين لصيغة "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، وضعف ميولهم الادخارية، تتعلق بصيغة المستقبل في اللغة الانجليزية. وكلما ضعفت صيغة المستقبل في لغة شعب ما كلما زاد ميل هذا الشعب، على عكس المتوقع، للادخار.
&
ورسم الباحث الأميركي الصيني الأصل خطوطًا بيانية توضح علاقة صيغة المستقبل في اللغة بميول الشعوب للادخار، وطبقها حتى على الشركات الكبرى في بعض البلدان، فكانت النتيجة أن المدخرات النقدية للشركات في هونغ كونغ، التي تتحدث الصينية، أكبر بكثير من المدخرات النقدية للشركات البريطانية والألمانية.
&
ربما يكون الصينيون، بحكم عددهم الهائل وبحكم تاريخ وطبيعة نظامهم، أقل رفاهية من غيرهم، لكنهم أبطال العالم في الادخار، بحسب الدراسات التي أجراها تشين. حينما درس تشين ديون الصينيين للبنوك، توصل أيضًا إلى أنهم أقل الشعوب ميلًا للاقتراض، رادًا ذلك إلى أسباب لغوية قواعدية تتعلق بضعف صيغة المستقبل في لغتهم المعقدة.
&
علاقة اللغة بالتصرف
اعتمد تشين أيضًا على دراسة أعدتها المدرسة المهنية في شانغهاي تقول إن اللغة لا تتحكم بطريقة تفكير وتصرف هذا الشعب أو ذاك، بل تقرر أيضًا ميله الاقتصادي وطريقه تعاملاته المالية. درس أيضًا علاقة اللغة بالتفكير والتصرف ثم طبقها على اقتصاد الأمم والشركات كي يتأكد من استنتاجاته.
&
وباعتباره ممثلًا للعالمين وللغتين، الصينية والانجليزية، حاول تشين مقارنة بعض المقاطع اللغوية في اللغتين. فكان يقول بالانجليزية: "سأذهب غدًا إلى واشنطن"، ويقول بالصينية "غدًا إلى برلين"، لأن صيغة فعل المستقبل في اللغة الصينية معدومة تقريبًا، ولا يعبر عنها في هذه الجملة غير كلمة "غدًا".
&
تتميز اللغات الانجليزية والفرنسية والتركية والاسبانية واليونانية بوجود صيغة مستقبل قوية في قواعدها، في حين أن أضعف صيغ للمستقبل وجدها الباحث في الصينية. كما توصل تشين إلى أن صيغ المستقبل ضعيفة في اللغات الألمانية واليابانية والهولندية والسويدية والنرويجية والايسلندية هو ما وضع هذه الأمم في منتصف قائمة الأمم الأكثر ادخارًا، في حين جاءت هونغ كونغ والصين في المقدمة.
ويرى الباحث أن قوة صيغة المستقبل في الانجليزية، وفي لغات أخرى، تترافق مع تمييز واضح بين صيغتي المستقبل والماضي، وهذا عامل نفسي لا يشجع على الادخار. فمن يتكلم لغة ذات صيغة مستقبل قوية يهمه الحاضر أكثر من المستقبل، ولهذا لا يدخر لضمان هذا المستقبل. ويبدو المستقبل هنا، من وجهة نظر المتحدث بصيغة المستقبل القوية، بعيدًا جدًا وغير مضمون، ولا يستحق بذل عناء غير الحاضر الذي يعيشه.
&
30 بالمئة فرق
يقول كيث تشين نفسه إن مثل هذه النظرية قد تبدو "خيالية"، لكن الأرقام تتحدث بصيغة "حاضر مستقبل" يصعب دحضها. ولذلك، درس الباحث البيانات التي وفرتها منظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي حول مدخرات الأفراد والشركات، وتوصل إلى نتائج تدعم نظريته.&
ارتفع الفرق بين مدخرات الأفراد من الأمم التي تتحدث دون صيغة مستقبل واضحة بنسبة 30% عن مدخرات الأمم التي تتحدث بصيغة مستقبل قوية. ومن ثم كانت مدخرات الأمم التي تتحدث بصيغة مستقبل ضعيفة أكثر بنسبة 5% من مدخرات الأمم التي تتحدث بصيغة مستقبل قوية. وينتقل معظم الناطقين بدون صيغة مستقبل إلى مرحلة التقاعد وهم يحتفظون بمدخرات تزيد 25% عما يحتفظ به الناطقون بصيغة المستقبل القوية. وشدد الباحث هنا على مقارنة مدخرات أفراد من لغات مختلفة، ولكن من مستوى اجتماعي ومالي متقارب جدًا.
لم يتوقف تشين عند هذا الحد وحاول التأكد من نظريته عن طريق مقارنة مدخرات الأفراد في الأمم المتعددة اللغات، مثل سويسرا (الفرنسية والألمانية والايطالية)، وبلجيكا (الألمانية والفرنسية والفليمش)، وماليزيا (الصينية والماليزية)، وكانت النتائج مماثلة.&
&
مستقبل بصيغة الحاضر
إن الحديث بلا صيغة مستقبل، أو بصيغة مستقبل ضعيفة، تعني التعبير عن المستقبل بصيغة الحاضر. ولا شك في أن انطباق نظرية علاقة اللغة بالادخار على الشركات، كما ظهر من دراسة بيانات منظمة التعاون الاقتصادي، تعني العلاقة أيضًا بالمؤسسات المالية وشروط الادخار وشروط منح القروض...إلخ. فأصحاب الشركات، الذين يتحدثون بصيغة مستقبل مخففة، أو يعبرون عن المستقبل بالحاضر، ينظرون بقلق إلى شروط القروض وشروط المؤسسات المالية، وهو ما يدفعهم للادخار نقدًا أيضًا أكثر من غيرهم، ويدفعهم بعيدًا عن ميول نيل القروض من المؤسسات المالية.
دليل آخر على نظريته يجده الباحث الاميركي في التحول الذي شهدته هونغ كونغ منذ عودتها إلى الأمة الصينية في 1997، إذ أن تراجع التوظيفات الأوروبية مقابل زيادة توظيفات الدولة الصينية في هونغ كونغ أدت أيضًا إلى ارتفاع المدخرات النقدية للشركات، وتراجع في ذات الوقت نيل القروض من المؤسسات المالية. وترافق بسط الهيمنة الصينية، مع بسط اللغة الصينية أيضًا وصيغتها اللامستقبلية، ومع بسط العقلية الصينية التجارية في هونغ كونغ.
&
القائمة
تابع تشين ميول الشعوب الادخارية، من خلال بيانات الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي، للفترة الممتدة بين 1985 و2010. من ناحية ميول الأفراد إلى الادخار والتوفير والابتعاد عن نيل القروض، كانت اسبانيا وتركيا والنمسا والولايات المتحدة وبريطانيا في ذيل القائمة، في حين احتلت هونغ كونغ والصين وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان مقدمتها.
بالنسبة للمدخرات النقدية التي تحتفظ بها الشركات الكبيرة وعلاقاتها باللغة، يظهر الجدول الذي رسمه تشين، من جديد، أن الصين وهونغ كونغ في المقدمة، في حين أن اسبانيا والولايات المتحدة (حيث صيغة المستقبل القوية) في ذيل القائمة. وربما أن ديون اليونان، وانهيارها الاقتصادي الوشيك، له علاقة بصيغة المستقبل القوية في اللغة الهلينية، لأن الشركات اليونانية كانت الأخيرة في قائمة الشركات غير الميالة للادخار النقدي.
وفقًا لليونسكو، هناك في العالم نحو 7 آلاف لغة، لكنّ عددًا قليلًا منها فقط هو الذي يسيطر على ألسنة معظم سكان كوكب الأرض، بينها عشر لغات سائدة اليوم. وهناك 347 لغة يتحدث بها أكثر من مليون نسمة، ولكن 95 بالمئة من اللغات المحكية في العالم يقل عدد الناطقين بها عن ذلك بكثير.
&