يتدفق على ألمانيا أعداد كبيرة من اللاجئين، ويتوقع مراقبون أن يحدثوا تغييرًا كبيرًا فيها. فهم يشكلون عبئًا، ويوفرون في الوقت نفسه فرصة لبناء ألمانيا جديدة أكثر كوزموبوليتانية وتسامحًا وكرمًا.

إعداد عبد الاله مجيد: أحدثت قضية اللاجئين انقسامًا في المجتمع الالماني يتبدى بأشكال مختلفة. فعندما زارت المستشارة انغيلا ميركل مدينة هايدناو، اصطف السكان على امتداد الشارع لرؤيتها. لكن الاستقبال لم يكن وديًا، بل اسمعها المحتشدون هتافات اتهمتها بالخيانة.

جيران غرباء

حين دخلت المستشارة المبنى الذي يؤوي 400 لاجئ، بدأ سكان هذه المدينة الصغيرة في ولاية سكسونيا يتحدثون عن الغرباء الذين اصبحوا جيرانهم بصورة مفاجئة.

وانضم إلى الحديث شرطي ذو ملامح أجنبية، لكنه يتكلم الالمانية مثل أي الماني. قال الشرطي: "أنا من مواليد ألمانيا عام 1980، لكن والديَّ من افغانستان جاءا هربًا من الحرب مع الروس". وأوضح الشرطي أن والده كان معلمًا في افغانستان، ووالدته كانت تعمل في المجال التقني، لكنهما لم يتمكنا من الاستمرار في عملهما.

استمع اليه الواقفون على الجانب الآخر من الحاجز باهتمام وذهول. وكان الشرطي الشاب يتحدث بهدوء، لكن بإصرار، ينظر اليهم وجهًا لوجه رافضًا إعطاء اسمه، ليس خوفًا بل لأنه لا يريد أن يتحدث عن آرائه السياسية اثناء الواجب الرسمي. فالرجل ذو الأصل الأفغاني استوعب بالكامل المبادئ الالمانية التي تحكم سلوك الموظف العامل في مجال الخدمة المدنية.

أي ألمانيا؟

لم يقل سكان المدينة شيئًا وتحول موقفهم العدائي إلى صمت مطبق. تبين هذه الواقعة أن ألمانيا اليوم بلد يمكن أن يثير الحيرة. فهناك مهاجرون يرتدون ملابس الشرطة واجبهم حماية المستشارة التي هي نفسها من ألمانيا الشرقية سابقا، بل من هذا الرهط الذي يناصبها العداء.

وكانت الاعتداءات على مراكز ايواء اللاجئين بلغت مستويات مخيفة هذا العام. إذ سُجل 199 اعتداء لغاية السادس من تموز (يوليو) الماضي من دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى توقفها. وبالمقابل، يبدي المان آخرون استعدادًا للمساعدة أكثر من أي وقت مضى.

فهم يزورون مراكز اقامة اللاجئين حاملين الملابس ولعب الأطفال ويطهون الطعام مع السوريين والسودانيين ويدعون الصبيان اللاجئين إلى مشاركة ابنائهم في لعب كرة القدم.

فأي الالمانيتين ستكون لها الغلبة؟ ألمانيا الهتافات العنصرية من المصطفين على جانب الطريق؟ ألمانيا المشاغبين ورماة الحجارة؟ "ألمانيا المظلمة" كما يسميها رئيس البلاد يواخيم غاوك؟ أم ألمانيا جديدة مشرقة ستولد يمثلها الشرطي الشاب ذو الاصول الأفغانية؟ هل ستختار اوروبا الغربية ترك اللاجئين يموتون اختناقًا في شاحنات نقل الماشية على أن تفتح الباب للهاربين من الحرب والظلم؟ أم أن ألمانيا سترحب بمشاركة اللاجئين في الازدهار الاستثنائي الذي حققته خلال العقود الماضية؟

تحالف العقل

القيادة السياسية الالمانية لم تحسم موقفها، وتبدو مترددة وشجاعة في آن واحد، ومن الصعب معرفة الاتجاه الذي ستقرر السير فيه. لكن هناك بوارق الأمل، فبعد ايام من الصمت زارت ميركل مركز اقامة اللاجئين في مدينة هاينداو الذي كان هدف احتجاجات اليمين. واعلن زيغمار غابريل نائب ميركل أن المحتجين قطيع ووغوغاء بعدما اعرب في وقت سابق من العام عن تفهمه لاحتجاجات حركة "الاوروبيين الوطنيين ضد أسلمة الغرب" المعادية للمهاجرين واللاجئين.

ولكن، إلى متى سيصمد هذا الموقف أو "تحالف العقل"، على حد تعبير مجلة شبيغل قائلة أن هذا واحد من عدة اسئلة يتعين الاجابة عنها. إذ من المتوقع أن يصل إلى ألمانيا 800 الف لاجئ هذا العام، بحسب تقديرات وزارة الداخلية. والمؤكد أن اعداد اللاجئين لن تنخفض في الفترة المقبلة. فالحرب الأهلية في سوريا مستمرة بلا هوادة والارهاب في العراق لا ينبئ بنهايته في وقت قريب والوضع في ارتريا من المستبعد أن يتحسن قريبًا، على سبيل المثال لا الحصر.

والمؤكد ايضًا أن الوافدين الجدد سيغيرون ألمانيا. فالالمان لم يتصالحوا إلا مؤخرًا مع حقيقة أن بلدهم بلد مهاجرين، وليس هناك شيء اسمه هجرة تحت السيطرة.

على السواء

لكن الالمان عمومًا لا ينظرون إلى اللاجئين على اساس مؤهلاتهم وهم لا يرون مشكلة في تفاوت مستوياتهم، بل يعتبر 60 في المئة أن ألمانيا قادرة على استيعاب اعداد هائلة من اللاجئين. واخذ شكل جديد من السلوك المتمدن ينشأ بينهم، شكل لا يدفعه تبكيت الضمير وتركة الماضي الثقيلة فحسب بل الفرح بعمل الخير.

لكن إلى متى؟ فاللاجئون سيكونون عبئًا على موارد البلد وهم سيُنتقلون إلى شقق اصلًا ليست متوفرة بأعداد كافية في بعض المدن. وسيكون وجودهم تحديًا لهيئات التدريس باستقبال اطفال لا يتكلمون الالمانية في مدارسهم.

وستطرح ألمانيا الجديدة مطالب كبيرة على مواطنيها، لكنها ستوفر فرصة جديدة ايضًا. فأغلبية اللاجئين من الشباب في حين أن ألمانيا سائرة نحو الشيخوخة بوتائر متسارعة. كما أن اللاجئين سيكونون دليلًا آخر على نجاح الديمقراطية الالمانية في مواجهة امتحانات وتحديات كبيرة.

نمط جديد

قبل عام، أُنشئ "تحالف الترحيب باللاجئين" في منطقة شتيغليتس تسيلينهوف الميسورة من برلين. ويعيش في المنطقة نحو 300 الف شخص وحتى الآونة الأخيرة مئات من اللاجئين الموزعين على خمسة مراكز لايوائهم. ويدعم المبادرة أكثر من 1000 شخص مع 300 متطوع لمساعدة الوافدين الجدد في انجاز المعاملات الرسمية أو جمع المساعدات لهم.

وهذا مثال واحد على ظهور حركة شعبية جديدة من نمط لم تعرف ألمانيا مثيلًا له من قبل. وتنقل مجلة شبيغل عن اولاف كلايست الباحث في مركز دراسات اللاجئين في جامعة اوكسفورد أن التسعينات شهدت "انطلاق موجة من الأشخاص المستعدين لمساعدة اللاجئين القادمين إلى ألمانيا هربًا من الحرب في يوغسلافيا السابقة ولكنها لم تكن بهذا الحجم وبهذه السعة".

انبثقت الحركة الجديدة من قلب المجتمع الالماني وهي حركة منفتحة على الوافدين إلى البلد. وقال كلايست: "انها مؤشر واضح إلى أن المجتمع الالماني مستعد للتغير، وانه يصبح أكثر حبًا للاستطلاع واكثر انفتاحًا على الجديد".

أخ غير شقيق

هذا ما تؤكده غابي انغلمان، التي تطوعت للعمل مع "تحالف الترحيب باللاجئين"، بمرافقة اللاجئين خلال مراجعة الدوائر الرسمية. وهي ترافق لاجئًا سوريا في مراجعاته منذ شباط (فبراير).

وأكدت انغلمان البالغة من العمر 69 عاما أن ابنها اصبح يسمي اللاجئ السوري أخاه غير الشقيق. وقالت انغلمان لمجلة شبيغل: "أنا فجأة أشعر بالسعادة"، مشيرة إلى تعرفها على ثقافات أخرى وتحسين لغتها الانكليزية واقامة العديد من الصداقات الجديدة.

لكن العمل الطوعي لا يعوض عن الدولة. وقال غونتر شولتس، مؤسس "تحالف الترحيب باللاجئين" انه إذا كانت مبادرات المواطنين تتولى مهام هي في الحقيقة من اختصاص الدولة فيجب على الأقل مدها بالدعم المالي اللازم لتنفيذ مهام الدولة نيابة عنها.

المخاوف نفسها

في التسعينيات، تمكنت الأحزاب اليمينية المتطرفة من تحقيق مكاسب سياسية باستغلال الخوف من "اغراق المجتمع الالماني" باللاجئين الوافدين من البلقان. لكن الوضع تغير والالمان اصبحوا أكثر انفتاحًا على العالم وتطور معه فهمهم للبؤس الموجود في العالم والأسباب التي تدفع اللاجئ إلى ترك وطنه. يضاف إلى ذلك أن كثيرًا من الناخبين المستائين لا ينضمون إلى الأحزاب اليمينية اليوم بل يكتفون بالامتناع عن التصويت.

مع ذلك، يرجح المحللون أن تؤثر قضية اللاجئين في القرارات السياسية لكثير من الناخبين. وقال ماتياس يونغ، رئيس مؤسسة فورشونغس غروبة فالين لاستطلاع الرأي لمجلة شبيغل: "مخاوف التسعينات شبيهة بمخاوف اليوم سوى أن الوضع الاقتصادي كان اسوأ بكثير وقتذاك، وإلى جانب الخوف اللاعقلاني من كثرة الأجانب كان هناك ايضا الخوف العقلاني من البطالة".

بعد اكثر من 20 عامًا تحسن الوضع الاقتصادي وتراجع الخوف من الأجانب. وفي الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، كان 44 في المئة من المهاجرين الذين وصلوا إلى ألمانيا من دول البلقان. وقد تكون اسباب هجرتهم شرعية لكن بلدانهم تحررت من الحرب والأنظمة الشمولية. ويتعين تسريع النظر في طلبات لجوئهم وكذلك عملية عودتهم إلى بلدانهم. وفي الوقت نفسه يتعين تسريع النظر في طلبات لجوء السوريين الذي يُقبل نحو 87 في المئة منهم، بحسب مجلة شبيغل.

لامسؤولية منظَّمة

اصبح مخيم اللاجئين غير الرسمي في كاليه الفرنسية رمزًا لفشل سياسة اللجوء الاوروبية. وتساءل علي مشيرا إلى كوخ من الألواح البلاستيكية قائلًا: "أهذه اوروبا؟" ثم اشعل نارا صغيرة بين ثلاثة احجار باستخدام اغصان جافة وكرة من الأوراق لطهي بعض الرز.

علي مهندس شاب من اقليم دارفور غرب السودان في طريقه إلى فرنسا عبر الصحراء الليبية ثم دفع آلاف اليوروهات إلى مهربين لايصاله إلى الضفة الاوروبية من البحر المتوسط.

كل مساء، يخرج علي واصدقاؤه من المخيم للبحث غن ثغرة في السياج الأمني الذي يحمي ميناء كاليه ونفق القطار العابر إلى بريطانيا. وفي كل مساء تحاول الشرطة الفرنسية وكلابها البوليسية منعهم من مواصلة رحلتهم الخطيرة. واصبحت هذه عملية يومية وسط اوروبا كثيرا ما تسفر عن اصابات بل وحتى عن وفيات.

حتى الآن تعاملت اوروبا مع الأزمة بـ"لامسؤولية منظَّمة"، على حد تعبير شبيغل. فايطاليا واليونان تسمحان للاجئين بمواصلة رحلتهم رغم الاتفاقات الاوروبية التي تقضي بأن يقدم اللاجئ طلب منحه حق اللجوء في البلد الذي يدخله اولا. وهو نظام اتاح لبلدان مثل ألمانيا وفرنسا أن تتجاهل حجم المشكلة طيلة سنوات.

الكراهية

لكن هناك دلائل عديدة أخرى على انهيار نظام الهجرة الاوروبي منها السياج الحدودي الذي تبنيه المجر وبلغاريا، وقرار سلوفاكيا قبول اللاجئين المسيحيين فقط، واعلان النمسا توقفها عن النظر في أي طلبات لجوء جديدة. وتعتزم بريطانيا إصدار قوانين صارمة ضد الهجرة غير الشرعية.

كثيرًا ما يُقال أن اوروبا تكبر في الملمات، لكن الوضع الحالي يؤكد عكس ذلك، وتبدو أزمة اللاجئين تميط اللثام عن اسوأ ما في اوروبا من كراهية للأجانب وانعزالية وجدل لا ينتهي عمن يتحمل المسؤولية.

لكن اللاجئين الذين وصلوا إلى اوروبا يمنحونها ايضًا فرصة لاثبات التزامها بالقيم التي تنص عليها معاهداتها. والخطوة الأولى هي الاتفاق على توزيع اللاجئين توزيعا عادلا بين دولها لكي لا يقع العبء الأكبر على بلدان مثل ايطاليا واليونان، أو ألمانيا والسويد. ولكن انعدام الثقة بين رؤساء الحكومات الاوروبية عميق لا يسمح بالتوصل إلى مثل هذا الاتفاق.

وعلى المدى الأبعد، تكافح اوروبا اسباب الهجرة واللجوء. وبالطبع فإن اوروبا لن تتمكن من انهاء سفك الدماء فورًا في سوريا، أو تحويل اريتريا إلى ديمقراطية، لكنها اصلًا لا تحاول النظر أبعد من حدودها. واقصى ما يفعله القادة الاوروبيون هو تشجيع البلدان افريقية على استعادة اللاجئين الذين رفضتهم اوروبا.

فرص عمل

لدى ألمانيا الآن فرصة مزدوجة. فليس كل اللاجئين الوافدين اليها من البسطاء غير المتعلمين، خصوصًا الآتين من سوريا التي يهرب افراد طباقاتها الوسطى والعليا ايضا.

وأظهرت دراسة اجراها معهد ابحاث التشغيل في نورمبرغ أن 13 في المئة من اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا عام 2013 يحملون شهادات جامعية، ونحو 25 في المئة أكملوا الدراسة الثانوية على أقل تقدير.

لكن الفئة الأكبر من الوافدين، نحو 58 في المئة، لم يتلقوا إعدادا مهنيًا من أي نوع. وإذا كانت ألمانيا تريد أن تتجنب اخطاء الماضي فيجب أن تسرع إلى تدريبهم مهنيًا. وسيكون هذا من أكبر المهمات المطروحة عليها في السنوات المقبلة.

وسيكون من الخطأ استبعاد اللاجئين عن نظام التعليم. فان تأهيلهم مهما كلف سيكون استثمارًا مربحًا في المستقبل لا سيما وان سوق العمل في ألمانيا تتسع لاستقبال المزيد.

وقال هولغر بونين الخبير بسوق العمل في مركز الأبحاث الاقتصادية الاوروبية أن من الخطأ الاعتقاد بأن اللاجئين يمكن أن يسرقوا فرص العمل من الالمان فان الفنادق والمطاعم ودور الرعاية والمزارع كلها تبحث عن أيدٍ عاملة.

ينجبون أكثر

كما يمكن استخدام اللاجئين للمساعدة في حل مشاكل ألمانيا السكانية، بما في ذلك الشيخوخة والهجرة من الريف إلى المدينة وتناقص السكان بسب انخفاض معدلات الولادة. فعائلات المهاجرين تنجب أكثر مما تنجبه العائلة الالمانية. لكن على الحكومة الالمانية أن تعد برامج تتيح اندماج اللاجئين والمهاجرين بسرعة كيف يسهموا بأكبر قسط ممكن في حل هذه المشاكل.

وتتمثل المهمة الرئيسية التي تواجه السياسيين الالمان الآن بضمان بقاء الأغلبية من الالمان على موقفهم المتعاطف مع اللاجئين حاليًا. ومن الضروري لتحقيق ذلك وضع أمرين نصب أعينهم هما رسم حدود والتحلي بالأمانة. إذ يتعين وضع حدود لكي لا يزيد عدد اللاجئين على قدرة المجتمع على استيعابهم فتُلقى اعباء على انفتاح الالمان واستعدادهم للمساعدة تفوق طاقتهم. وعلى السياسيين أن يتكلموا بصراحة عن التكاليف التي ستواجه الالمان قريبًا. فان دمج اللاجئين لن يحدث مجانًا بل هناك اثمان، مالية واجتماعية على السواء.

وسيكون تعايش مئات الآلاف من المسلمين العرب والأفارقة بالاضافة إلى ملايين الأتراك وذوي الأصول التركية الذين يعيشون اصلا في ألمانيا اختبارًا لقدرتها وحدود تسامحها. وعليها أن تكون مستعدة لسجالات عامة حول قضايا مثل السماح بالحجاب في الدوائر الحكومية وتقديم دروس مختلطة في السباحة وبناء مآذن اعلى من ابراج الكنائس ودرجة صوت المؤذن. ولكن هذا اختبار اثبت المجتمع الالماني انه قادر على قبوله وتحمله.