ترى الناقدة السينمائية هدى ابراهيم أن السينما السورية ناجية، وأن السينما العربية هي سينمانا هي نحن. وتسأل: لِمَ لا يكون لنا مستقبل مشرف؟

إيلاف من دبي: تأبى الناقدة السينمائية هدى ابراهيم أن تتراجع. فمن ورائها عدم ومن أمامها أمل دائم بسينما عربية لا تذبل، خصوصًا أن فيها، أو كان فيها، مخرج من عيار السوري الراحل نبيل المالح، الذي رصدت دورة هذا العام من مواسم السينما العربية في باريس، النشاط السينمائي الذي أطلقته وتديره بنفسها، للاحتفاء بالمالح، عارضة فيلمه الكومبارس، بين 21 فيلمًا عربيًا آخر.

&

دورة هذا العام من مواسم السينما العربية في باريس مهداة&لذكرى نبيل المالح

&

في حوارها مع "إيلاف"، تعبر ابراهيم عن أملها بنجاة السينما السورية من حمام الدم المستمر في سورية، وتقول إنها ستنبعث أقوى مما هي الآن، وتعلق أملها على سينما المغرب العربي التي تبدو شامخة طامحة إلى العالمية أكثر.&

وابراهيم، كما تقول، من الأشخاص الذين يعتقدون، وما زالوا، بأن السينما قادرة على التغيير، "مهما كانت هذه الفكرة يوتوبية فهذه هي الحقيقة التي أؤمن بها". &

في ما يأتي متن الحوار:

قبل البداية.. لماذا نبيل المالح وليس غيره؟

نبيل المالح من أهم المخرجين السوريين، لم ينل حقه من الاهتمام، ولم يضعه النقاد أو حتى السينمائيون في سوريا في المرتبة التي يستحقها. فيلمه "الكومبارس" الذي نقدمه في مواسم ينطوي على حداثة وراهنية غير معقولة، خصوصًا في كلامه عن سيكولوجيا الإنسان المقموع ضمن معالجة سينمائية فذة، حيث لا تخرج الكاميرا من المكان المقفل. كان المالح أول من تناول باكرًا جدًا مسألة الحرية الفردية داخل مجتمع شرقي. تمتلك سينما نبيل المالح نفسًا مختلفة عن المعهود في السينما السورية. هو أحد الآباء المؤسسين لهذه السينما ومن أوائل الذين رصدوا في أعمالهم آليات القمع الكامنة في المجتمع ومشكلات البروقراطية القاتلة، مع ذلك فإن مسيرة نبيل المالح تعرضت للكسر، بسبب عمليات المنع المتكررة لأعماله. وشريط "الكومبارس" الذي يجهله الكثيرون كان آخر أفضل أعماله، بعده لم ينتج أفلامًا روائية طويلة، في حين أن العمل يرقى إلى مصاف السينما العالمية. أعتبر أن ما أعطاه أقل بكثير مما يمكن أن يعطيه ورحل طاويًا معه احلامه وأحلاماً سينمائية يستحيل تحقيقها في بلد مثل سوريا. أتساءل أحيانًا لو كان مثل هذا المخرج بموهبته وحماسته وحبه للفن السابع، ابن أوروبا مثلًا، ترى ما الذي سيكون عليه حال إبداعه وكيف ستكون عليه مسيرته الفنية؟ بالتأكيد شيء مختلف تمامًا.

&

مهرجان مواسم يعرض 21 فيلمًا عربيًا

&

السينما السورية ناجية

ماذا تقول لك السينما السورية؟ هل تنجو برأيك من حمام الدم السوري؟

التحولات التي يشهدها اليوم أكثر من بلد عربي، ومهما كانت دموية وقاسية، لها جوانبها الإيجابية التي انعكست على السينما السورية، لأن هذه السينما لم تعد مرتهنة للمؤسسة العامة للسينما في دمشق، كما ظلت على مدى سنوات طويلة، ما أدخلها في حلقة من المراوحة والجمود عمومًا. خرجت هذه السينما إلى العالم خصوصًا في جانبها الوثائقي، الذي بدأ عاديًا مصورًا الألم السوري عن قرب، وتحول إلى فني استطاع استيعاب التجربة على مأساويتها وحكاية الأنا السورية المقتولة إلى العالم. برز الكثير من الأسماء الشابة التي لم يكن لها وجود سابقًا، تلبية لحاجة أولًا ومضيًا إلى الأبعد. باستطاعتنا القول إن إنتاج الأعمال السورية في الوثائقي من العام 2011 وإلى اليوم فاق كل الإنتاج السينمائي السوري منذ ولادة الصورة السينمائية في سوريا. أما الروائي فما زال يحتاج لدم جديد، ولا بأس بتجارب السنوات الأخيرة. السينما السورية اليوم سينما متجددة، تمتلك قدرات عالية في مجال الوثائقي وتحتاج الى مزيد من الزخم في الروائي. وهي ستخرج أقوى من هذه المحنة التي تعيشها سوريا، لأن التحديات المفروضة على عاتقها أمام كل هذا الموت والدمار تحديات بقاء أو موت، وهي منذ بداية الأزمة أوجدت آليات لتواكب هذا التحول العميق ومضت إلى أبعد. أراهن فيها على جيل جديد سيتولى المتابعة، خصوصًا في ظل هذا التعاطي الهائل مع الصورة وسهولة التقنيات لصنع الصور اليوم. السينما السورية مستقبلها أمامها، وهي تستند إلى كل هذه الأسماء الكبيرة التي سبقت إلى الإبداع، والتي لن أذكرها لأنها كثيرة.

مآثر مشرقية ومغربية

ماذا ترين في سينما المشرق العربي... ومغربه؟

حققت السينما في المغرب العربي تقدمًا كبيرًا في السنوات الماضية، فالسينما المغربية بفضل سياسة الدعم ومراعاة الحرية الفنية التي اعتمدها المركز السينمائي المغربي دفعت بهذه السينما إلى الأمام، وباتت اليوم تفوق ما تنتجه السينما المصرية. لدينا عمومًا ثلاثة أفلام مغربية جيدة في العام، وكذلك تشهد السينما التونسية منذ عامين تقدمًا ملموسًا يذكر بالتقدم الذي حققته في الثمانينيات مع أفلام نوري بوزيد، فريد بوغدير ومفيدة التلاتلي. الأسماء اختلفت اليوم وهي أسماء لجيل شاب يقدم غالبًا عمله الأول ويخرج إلى مهرجانات العالم ليحصد الجوائز ويسجل الإعجاب. للأسف، الوضع في الجزائر ليس مثله في البلدان المجاورة، على الرغم من وجود طاقات جبارة ومواهب إبداعية في هذا البلد الغني بطاقاته. لدينا في تظاهرة "مواسم" فيلم صغير تجريبي من موريتانيا، كما من السعودية التي تشهد حراكًا سينمائيًا غير مسبوق. قدم الأردن الذي ترقى تجاربه السينمائية الجديدة إلى عشر سنوات فيلمًا وصل إلى التصفيات النهائية في الاوسكار، وانتزع لبنان جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي العام الماضي. سينمانا قادرة تحكي صورتنا الحقيقية بعيدًا عن صور العنف والدماء السائدة في الخارج. من هنا حديثي في تقديمي للتظاهرة عن مفهوم السينما في بلداننا كمكان آمن وملجأ يصلح للعيش. هذا السؤال كبير وواسع، لا بدّ من التوقف عند التجارب الفلسطينية المتقدمة دائمًا، واللبنانية التي تفاجئ أحيانًا، لكننا نأسف دائمًا على التراجع الذي شهدته السينما المصرية في السنوات الأخيرة، الذي على الرغم من حقيقته تخترقه تجارب مميزة للغاية وسأحرص على عدم ذكر الأسماء كي لا أنسى أحدًا.

الدفاع عن صورتنا&

ما الهدف من مواسم؟

مواسم هدفها هو الدفاع عن صورتنا من خلال الأعمال التي نتشرف بتقديمها لجمهور مشبع بالاطلاع على كافة الأعمال الفنية والثقافية من كافة أنحاء العالم، إنها الصورة التي نفخر بها، والتي تعلنها مواهب معظمها جديد وشاب، إنها الرغبة بأن نقول للإنسان الآخر إننا مثله، نشبهه في الكثير من الجوانب، والرغبة أيضًا بكسر الصورة النمطية السائدة عن الكائن العربي وسط ارتفاع منسوب التطرف وسيل الدماء في العالم. إنها دعوة إلى الحوار والتفاهم من خلال السينما، ومن خلال الجمال الذي تنطوي عليه.

&

العروض بدأت مساء الخميس 7 نيسان (أبريل)

&

مواسم تدافع عن هذه السينما القيمة والجميلة التي، لأسباب شتى، لا تجد سبيلها الى السوق الأوروبية التي تضيق بما فيها وتخضع مثل أسواق العالم كافة لغزو السينما الأميركية الكاسح للأسواق. "مواسم" محاولة لفعل كل ذلك، محاولة صغيرة لكنها كبيرة في معناها. أتمنى.

نؤازر ونحتضن

في مانيفستو هذا العام، استعملت كلمة "ندافع" (le cinéma que nous défendons). هل صارت السينما العربية اليوم في موقع الدفاع الأخير عن نفسها وعن قيمها الفنية بعدما كانت أهم محركات التغيير؟

كلمة ندافع هنا بمعنى نؤازر ونحتضن. نحاول الدفع بهذه السينما إلى الأمام، إلى الواجهة، لأنها تظلم أحيانًا بسبب صورتنا في الغرب، وهي صورة بعيدة عن الإيجابية. نتيح لها مجالًا لترى، لتكون في المساحة الأخرى، في الجغرافيا المختلفة، وفي وعي من تعميهم أخبار الأحداث اليومية، عن رؤية الأشخاص والحيوات العربية في بعدها الإنساني الأصلي.

السينما تصور الإنسان في واقعه وأحلامه، ونحن أيضًا لدينا أحلامنا وتطلعاتنا الجميلة، السينما والفن عمومًا والثقافة كذلك، تذكر بهذه التطلعات، التي تجعلنا نشبه البشر الآخرين. هذا هو هامشنا وهذا مسعانا. أما السينما العربية اليوم فتمر بمرحلة مخاض مهمة للغاية. إنتاجها نما في النوع خصوصًا لكنها ما زالت تحتاج كثيرًا من الدعم الرسمي، اذ معظم الجهود فيها فردية والمخرج مثل المالح، يموت سبع ميتات قبل أن ينجز عمله. هي سينما تنم عن التزام كبير بكل هذه المعاني وبفكرة النضال المستمر لأجل إنجاز فيلم.

لا تقصير

21 فيلمًا في مهرجان هذا العام، أغلبيتها قصيرة. هل يقصّر العرب في تصوير الأفلام الروائية؟

لا... التركيز على الافلام القصيرة، في جانب منه تركيز على المواهب الشابة، على المواهب الأحدث، وربما لأن الأعمال القصيرة أسهل كلفة في الإنتاج، فهي اكثر اكتمالًا عمومًا من غيرها. الأعمال القصيرة المقدمة نخبة من الافلام التي هي زبدة الإنتاج ومعظمها نال النجاح والتقدير اينما حل. أسماء أصحابها ستكبر حتمًا وسيتحول أصحابها سريعًا إلى مخرجين كبار. هي أحيانًا أجرأ كونها تنتمي لتجارب مستقلة في معظمها، وهي تجارب مهمة للغاية. في مواسم عرضان لأحد عشر فيلمًا قصيرًا. دعينا نقول إن القصير العربي أكثر رشاقة ووصولًا واكتمالًا عمومًا. للفيلم القصير في أوروبا أهميته، كما الفيلم الطويل.

ثمة تعزيز للفيلم الوثائقي العربي. لكن المشاركة هزيلة في هذا الباب. هل يتجنب العرب توثيق تاريخهم وحوادثهم وقضاياهم؟

على العكس. أعتقد أن الوثائقي العربي قطع في السنوات الخمس عشرة الأخيرة ما لم يقطعه في تاريخه. الأعمال الوثائقية التي ينجزها صناع الأفلام العرب اليوم في غاية الأهمية، باتت حاضرة باستمرار في كافة المهرجانات العالمية التي تعنى بالوثائقي، وهي تتناول كافة القضايا وتتقدم وتروي. لكن حكاياتنا كثيرة، نحن بلاد ألف ليلة وليلة، ومهما وثّقنا أو عالجنا القضايا نبقى بحاجة إلى رواة كثر. أفضل الأفلام التي تتناول الحاضر عن تلك التي توثق التاريخ، تلك أفضل قراءتها في الكتب.

هذه معاييري

ما معاييرك لانتخاب الأفلام المشاركة في مواسم؟

المعيار الأول والأساس جودة العمل. تعترضنا صعوبات منها عدم وجود ترجمة للأعمال العربية إلى الفرنسية، فلا نستطيع تقديمها بالانكليزية لجمهور فرنسي. نتورط أحيانًا في ترجمة بعض الأفلام التي نرغب بعرضها دون غيرها، وأحيانًا نتخلى عنها. من ضمن الصعوبات أيضًا رغبة الموزعين في عدم عرض الفيلم قبل موعد خروجه في الصالات. يريدون التحكم بالتواريخ ما يحرمنا من عرض أفلام جيدة جدًا، رغم كونه مهرجاناً لا يقدم جوائز والعروض ضمنه ثقافية غير خاضعة لاعتبارات المنافسة.

أين ترين نعمة السينما العربية؟ وأين نقمتها؟

أنا من الأشخاص الذين يعتقدون،&وما زالوا، بأن السينما قادرة على التغيير. مهما كانت هذه الفكرة يوتوبية فهذه هي الحقيقة التي أؤمن بها. الأفلام الوثائقية تزيد من الوعي بقضايانا وقضايا العام، والأفلام الروائية تقيس منسوب قدرتنا على الخيال والحلم. من يقدر على ذلك يقدر على الأغلب على إعادة صنع واقعه أو تصور واقع أفضل. لكن صنع السينما في الواقع العربي حيث الدعم قليل جدًا لصناع الأفلام شيء يقصر العمر... كله في حبها يهون.

مسألة الهوية

هل أثر "الربيع العربي" أو الأفكار التي استنهضها، حتى في الدول التي لم تقم فيها ثورات، في السينما العربية؟ أي هل نشأ جيل جديد من السينمائيين العرب بعد هذه الموجة الثورية؟

بالتأكيد. هناك جيل جديد في السينما العربية، ومع الوقت سنرى ملامح اكيدة أكثر لهذا الجيل، التحديات التي تعيشها الشعوب العربية كبيرة والانقسامات شديدة، السينما تثير مسألة الهوية، وهي تساهم على نحو ما في صنع حاضرنا، وأقله الشهادة عليه، خصوصًا أن السينما من أكثر الفنون ارتباطًا باللحظة.

كيف تستشرفين مستقبل هذه السينما؟

من طبعي التفاؤل. أحب هذه السينما وأدعمها بكل طاقتي. أدفع من جيبي لإعلاء اسمها. مستقبلها سيكون أفضل من ماضيها. هذا أكيد. ربما نكون كعرب فقدنا الكثير من الأشياء الجميلة، لكننا ما زلنا نحب الأغاني وننتج منها الجميل الذي نحب. كذلك السينما. سينمانا هي نحن، فلِمَ لا يكون لنا مستقبل مشرف؟
&