برلين: بينما يواجه الائتلاف الحكومي بقيادة أولاف شولتس أول أزمة دولية كبيرة في ظل شبح الحرب في أوكرانيا، تكشف سياسة برلين الملتبسة تجاه موسكو مواقف الأحزاب الألمانية من روسيا وخصوصا المستشار نفسه.
وحتى مع حشد روسيا عشرات الآلاف من عسكرييها على الحدود مع أوكرانيا، يتساءل قادة كبار في الحزب الاشتراكي الديموقراطي في ألمانيا علنا عما إذا كان خطر الغزو مبالغا فيه.
ويحذر المستشار السابق غيرهارد شرودر وهو أيضا من الحزب الاشتراكي الديموقراطي، كييف من "استعراض القوة" ويقول إن الحشد العسكري الروسي هو رد فعل على مناورات حلف شمال الأطلسي في دول البلطيق وبولندا.
ويشوش ضجيج المواقف المتناقضة لأعضاء الحزب الحاكم، على رسالة شولتس الذي يؤكد أن برلين متحدة مع الحلفاء ضد التهديد الروسي.
مسؤوليات تاريخية
وتتفاقم المخاوف بسبب رفض برلين تسليم أسلحة إلى أوكرانيا على خلفية ما وصفته بمسؤولياتها التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية.
وكتبت أسبوعية "دير شبيغل" أن "أكبر عائق للسياسة الخارجية الألمانية في الوقت الحالي هو حزب المستشار"، مشيرة إلى أن فئات واسعة من الحزب الاشتراكي الديموقراطي (يسار الوسط) لا تزال تعيش في حالة "تعاطف مع موسكو".
لكن رئيس الحزب لارس كلينغبل أكد أن "نهج الحزب الاشتراكي الديموقراطي واضح جدا".
وقال لشبكة "زي دي اف" إن "تصاعد التوتر الذي نشهده حاليا مصدره روسيا".
وحذر الأمين العام للحزب كيفن كونرت مؤخرا من "التحدث عن صراعات دولية محتملة لجعلها واقعا" من أجل دفن مشاريع "كانت دائما شوكة في خاصرة أحدهم".
وكان يشير إلى خط الأنابيب المثير للجدل "نورد ستريم 2" الذي شيد لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا وحذّرت واشنطن والعديد من دول الاتحاد الأوروبي من أنه سيزيد الاعتماد على موسكو.
وذكرت وزيرة الدفاع كريستين لامبرخت وهي أيضا اشتراكية ديموقراطية مطلع الشهر بأنه ينبغي عدم ربط مستقبل خط الأنابيب بأزمة أوكرانيا.
وتراجعت لاحقا عندما وضع شولتس، تحت ضغط الولايات المتحدة وحلفاء رئيسيين، جميع الخيارات على الطاولة إذا أقدمت روسيا على خطوة الغزو.
ولكن على وقع أسوأ توتر بين الغرب والكرملين منذ الحرب الباردة، لا يزال شرودر يشغل منصب رئيس مجلس إدارة شركة النفط الروسية العملاقة "روسنفت".
وقال رئيس بلدية كييف فيتالي كليتشكو في تعبير عن عدم استيعابه المسألة "على ألمانيا أن تضمن أن جماعات الضغط" مثل شرودر "ممنوعة قانونا من العمل لصالح النظام الروسي".
ينبع موقف الحزب الاشتراكي الديموقراطي المتراخي بشكل غير عادي تجاه روسيا مما يسمى "سياسة الشرق الجديدة" التي ابتكرها المستشار السابق فيلي برانت.
وشكلت سياسة الانفراج والحوار مع الاتحاد السوفياتي آنذاك قطيعة مع استراتيجية أول مستشار لألمانيا الغربية كونراد أديناور الذي رفض الاعتراف بألمانيا الشرقية الشيوعية.
ويرى العديد من الألمان أن "سياسة الشرق الجديدة" سمحت بالتقارب مع الشطر الشرقي وإعادة توحيد ألمانيا في نهاية المطاف. واليوم، تعتبر في صلب هوية الاشتراكيين الديموقراطيين.
وعدّل المستشارون اللاحقون تلك الاستراتيجية، لكن حتى أنغيلا ميركل من حزب "الاتحاد الديموقراطي المسيحي"، دافعت عن الحوار والعلاقات الاقتصادية كوسيلة لكبح طموحات موسكو.
وخلال 16 عاما من عهد ميركل، هيمنت البراغماتية الاقتصادية أيضا. ورغم معارضة الحلفاء الغربيين، دافعت المستشارة السابقة أيضا عن خط أنابيب "نورد ستريم 2" وأصرت على أنه مشروع تجاري.
ومن ثم، يمكن العثور على الذين يُطلق عليهم اسم "بوتين فيرشتيهر" (المتعاطفون مع بوتين) عبر الطيف السياسي الألماني، وإن بدرجات متفاوتة.
وعزز هذا الموقف المتأصل تجاه روسيا، إلى جانب إرث ألمانيا المتمثل في عقدة ذنب الحرب، إحجام برلين عن تصدير الأسلحة.
ولا يزال طلب إستونيا من برلين الموافقة على نقل ثمانية مدافع هاوتزر قديمة من ألمانيا الشرقية السابقة، معلقا في أروقة البيروقراطية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية في معهد السياسة الأمنية بجامعة كيل، مارسيل ديرسوس "يعتقد كثير من الألمان أن إرسال أسلحة إلى أوكرانيا الآن لن يساعد أحدا.. لأنه لن يؤدي سوى إلى التصعيد".
وأظهر استطلاع نُشر هذا الأسبوع أن 59 في المئة من الألمان يؤيدون حكومة شولتس في رفضها تسليح أوكرانيا، مقابل عشرين بالمئة فقط يعارضون هذا الموقف.
بدلا من ذلك، أرسلت ألمانيا خمسة آلاف خوذة في خطوة وصفتها لامبرخت بأنها "مؤشر واضح جدا" إلى أن برلين تقف إلى جانب كييف، في تصريح لقي انتقادات كثيرين.
وتصاعدت الدعوات لألمانيا إلى إعادة التفكير في موقفها في مواجهة ما وصف بأنه سياسة توسعية لبوتين.
ويقول بعض المراقبين إن عقدة الذنب في الحرب لم تتلاش.
ويشير رئيس مركز أبحاث المجلس الألماني للشؤون الخارجية توماس إندرش إلى أن "الجرائم النازية لم تستهدف روسيا فحسب، بل حدثت أيضا في أوكرانيا وبولندا ودول البلطيق. وكل هذه الدول تشعر الآن بالتهديد الروسي".
مواجهة التهديدات العسكرية
ويوضح أندرياس أوملاند المحلل في المعهد السويدي للشؤون الدولية، أن السياسات التي تبنتها ألمانيا مثل "سياسة الشرق الجديدة التصالحية تجاه موسكو، وإحجامها عن مواجهة التهديدات العسكرية، واعتمادها على القوى الأخرى عندما يتعلق الأمر بقضايا كبرى" هي ببساطة "غير مناسبة للتعامل مع المواجهة الحالية مع" روسيا في عهد بوتين.
وسط انقسام داخل الحزب، من المقرر أن يجري الاشتراكيون الديموقراطيون مشاورات مغلقة الاثنين لتحديد موقفهم من روسيا.
ونبه مسؤول السياسة الخارجية في الحزب الاشتراكي الديموقراطي مايكل روث حزبه إلى ضرورة اتباع مسار جديد، لأن المعطيات "تغيرت بشكل جوهري".
في غضون ذلك، يشير محللون إلى أن مشاركة حزب الخضر في التحالف قد تساعد في تغيير لهجة برلين تجاه الكرملين.
وقد يعتبر وقف "نورد ستريم 2" جزءا من حزمة عقوبات في حال حدوث غزو روسي.
ويقول ديرسوس "الفكرة العامة القائلة بوجوب حصول عواقب بالنسبة للطغاة العدوانيين... أصبحت مقبولة أكثر في الخطاب العام الألماني وأعتقد أن ذلك يرجع في جزء كبير منه إلى الخضر".
التعليقات