وسط الكم الكبير من التقارير الإخباريّة حول ما يجري في قطاع غزة المحاصر، وجد خبر يزعم توجه باخرة تحمل أطناناً من الخضروات التركية لتقديم الدعم إلى إسرائيل، مكانه بين عناوين الحدث الذي يشغل الساحة العالمية.

ونشرت وكالة أنباء تركيا مساء الثلاثاء 17 أكتوبر/تشرين الأول بياناً تنفي إرسال أنقرة سفينة مساعدات إلى إسرائيل.

النفي التركي جاء عقب تقارير إسرائيلية تحدثت عن وصول سفينة دعم تركية رست في ميناء حيفا محملة بـ4500 طن من الخضراوات، 80 في المئة من حمولتها كانت من الطماطم، على حد قولها.

السفينة التي تحدثت عنها مواقع عبرية وفندت تركيا وجودها من الأساس، قد لا تكون محملة بالخضار بقدر ما تحمله من تساؤلات حيال الموقف التركي مما يحدث في غزة، والشكل الذي باتت عليه العلاقة بين أنقرة والحكومة الإسرائيليّة.

وهذه التساؤلات، حركتها لهجة خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي أجرى اتصالات مع قادة في المنطقة بشأن وقف التصعيد في غزة، إلا أن كلماته ليست ذاتها مقارنة بما كانت عليه في السابق من هجوم كلامي على إسرائيل ودعم لحماس.

فمنذ الساعات الأولى من الهجوم الذي شنته حماس، لجأت أنقرة لاستخدام لهجة وصفت بأنها "محايدة" حيث لم توجه خلالها أصابع الاتهام إلى إسرائيل ولا إلى حماس.

واكتفى الخطاب التركي خلال الأيام الأولى بإدانة الخسائر في أرواح المدنيين والتأكيد على الاتصال مع جميع الأطراف المعنية للمساعدة في إنهاء النزاع.

وبعد ما وقع في المستشفى المعمداني في قطاع غزة وسقوط قرابة الـ500 قتيل، قال الرئيس التركي إن "القصف الإسرائيلي هو رد غير متناسب ويصل إلى حد المذبحة". ودعا إسرائيل إلى وقف هجماتها على قطاع غزة التي ترقى إلى حد التطهير العرقي والإبادة الجماعية، بحسب وصفه.

ففي حين طالب أردوغان الإدارة الإسرائيلية بوقف قصفها للأراضي الفلسطينية، طالب الفلسطينيين "بوقف تحرشاتهم ضد التجمعات السكنية المدنية في إسرائيل".

كما علّق أردوغان على رد إسرائيل على هجوم حماس بتصريحات وُصفت بأنها تساوي بين حماس وإسرائيل، مثل قوله "انطلاقاً من مبدأ لا خاسر في سلام عادل، ندعو كافة الأطراف الفاعلة إلى تحمل مسؤوليتها لإحلال السلام".

وهذا الخطاب ورغم الإدانات التي وجهها أردوغان لإسرائيل، لا يشبه ردود فعله على التصعيد الإٍسرائيلي في الحروب السابقة، فكيف كانت قبل حرب غزة الأخيرة؟

اختلاف في اللهجة

أردوغان
Getty Images
سحبت تركيا سفيرها في تل أبيب وأعلنت السفير الإسرائيلي لديها شخصاً غير مرغوب به بعد حرب غزة عام 2018

في حرب غزة عام 2014، التي راح ضحيتها أكثر من 2300 فلسطيني، لم يكتف أردوغان حينها بالإدانة، بل كان رده كالتالي: "يلعن الإسرائيليون هتلر ويشتمونه ليلاً ونهاراً بسبب الهولوكوست، ولكن اليوم، نجد أن دولة إسرائيل الإرهابية قد تجاوزت فظائع هتلر من خلال عملياتها بغزة".

وامتدت إلى اتهامه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بـ"مساعدة إسرائيل في حربها على قطاع غزة"، بعيد اتهام القاهرة وإسرائيل كلا من تركيا وقطر بدفع حركة حماس إلى رفض المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار.

وفي العام ذاته، أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جائزة حصل عليها عام 2004 من منظمة المؤتمر اليهودي الأمريكي "لجهوده في إرساء السلام في الشرق الاوسط"، بعدما وصفته المنظمة بأنه "خطيب خطير" ضد إسرائيل، وجاء رد سفير بلاده أن أردوغان "سيكون سعيداً بإعادة الجائزة".

أما في حرب غزة عام 2018، وصف أردوغان نتنياهو بالـ"إرهابي"، وسحبت تركيا سفيرها في تل أبيب وأعلنت السفير الإسرائيلي لديها شخصاً غير مرغوب به.

يقول المحلل السياسي التركي وعضو حزب العدالة والتنمية، يوسف كاتب أوغلو، لبي بي سي: "تصريحات أردوغان جاءت متوازنة، نعم هي محايدة وتراعي ما يسمى بالتوازنات الإقليمية، لكنها تصريحات سياسية تدل على أنها تريد أن تلعب دور الوساطة".

ويضيف: "ربما لا ترتقي التصريحات لما يتوقعه الشارع العربي والإسلامي، الذي يرى في أردوغان القائد الإسلامي للشعوب المقهورة".

كما يقول إنّ " تركيا تسعى إلى إخماد حريق الحرب، نظراً لأن إشعالها سيعم المنطقة وسيصبح ذريعة لتدخل القوات الأجنبية، تماماً كما فعلت الولايات المتحدة من تزويد إسرائيل بالصواريخ والمعدات العسكرية، إلى جانب الدعم الأوروبي الآخر. خطاب أردوغان سيكون تصاعدياً، والأهم ما يقوم به الآن من اتصالات مع زعماء العالم".

أما أستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس، الدكتور خطار أبو دياب، فقال لبي بي سي: "اختلفت لهجة أردوغان بالقياس لوقوفه إلى جانب الفلسطينيين في مواجهات 2014 و 2021 بعد إعادة العلاقات التركية-الإسرائيلية، وبسبب وضع تركيا الاقتصادي، لذا اختار أردوغان الحياد".

ويضيف: "الوضع الإنساني والقصف العنيف في غزة وتحرك الشارع التركي، يمكن أن يغير الموقف التركي".

من المواجهة إلى المصالحة

على عكس الضجيج السابق الذي كان يثيره أردوغان بانتقاده السياسات الإسرائيلية، تحولت لهجة خطابه الراهن، وذلك منذ اللقاء الذي جمع بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في سبتمبر أيلول الماضي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

كانت بداية انتكاسة العلاقات الإٍسرائيلية-التركية، في عام 2018 عندما احتجت تركيا على قتل إسرائيل لعشرات الفلسطينيين المشاركين في مسيرات العودة وكذلك على نقل السفارة الأمريكية للقدس.

لكن تركيا سعت لاحقا ومنذ نهايات 2020 لتحسين علاقاتها مع عدد من الأطراف الإقليمية، التي شهدت علاقاتها معها توتراً وتراجعاً خلال السنوات الماضية، ومن بينها إسرائيل.

وفي العام ذاته، فتحَ قرارُ إفراج الجانب التركي عن الزوجين الإسرائيليين المحتجزين في إسطنبول الصفحةَ الجديدة في العلاقة بين البلدين، ومقابل ذلك زار الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، تركيا وسط استقبالٍ حافل.

ربما لم يجد أردوغان طريقاً آخر لإخراج بلاده من الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي لحقت بها، بعد مواقف أردوغان التي اتُسمت بالـ"عدائية" من قبل الغرب، والتي طالت المحيط الإقليمي وكلفت الاقتصاد التركي خسائر فادحة.

فربما يسعى أردوغان تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، إلى تطويق الخسائر واستعادة العلاقات مع بلدان الإقليم، بما في ذلك إسرائيل.

هل لا تزال تركيا وسيطا مؤثرا في هذه الأزمة؟

"النكبة"
Getty Images
هُجّر نحو 750 ألف فلسطيني خلال أحداث "النكبة" عام 1948 بعد الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل

قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد أحداث غزة الأخيرة، إن بلاده جاهزة لأي نوع من الوساطة بما في ذلك تبادل الأسرى، وإن بلاده تقوم بالاستعدادات اللازمة لتأمين المساعدات الإنسانية لأهالي غزة.

لكن ما مدى قابلة تطبيق ذلك في الواقع؟

يقول يوسف كاتب إن "تركيا بدأت بشكل واضح في إبداء استعدادها لتكون وسيطاً بين الجانبين، وأن تكون الدولة الوحيدة التي تتمكن من التواصل مع الطرفين"، ولكنه يقول إنه "من المبكر الحديث الآن عن إطلاق سراح الأسرى".

وكان مصدر في الرئاسة التركية، قد نفى صحة التقارير التي نشرتها وسائل إعلام تركية معارضة حول نية تركيا التدخل عسكرياً في الصراع الحالي، وأكد المصدر أن الرئيس التركي، ووزير خارجيته هاكان فيدان، ملتزمان بجهود الوساطة و يسعيان للتوصل إلى وقف لإطلاق النار من خلال جهودهما الدبلوماسية المستمرة.

يقول الدكتور خطار أبو دياب إن السلطة الفلسطينية تربطها علاقة وطيدة بتركيا، وبالنسبة لحماس هناك رابط الإسلام السياسي والتعاون مع حماس، لذا "نعم، لا تزال تركيا تشكل وساطة نزيهة بالنسبة للفلسطينيين".

هل يمكن أن تنعكس الحرب الأخيرة على إعادة إحياء العلاقات التركية-الإسرائيلية؟

تعتبر حركة حماس تركيا حليفاً استراتيجياً لها، ويقيم فيها منذ عقد عدد من قادتها، كما يتردد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، ورئيسها في الخارج، خالد مشعل، بانتظام على إسطنبول.

وانتقدت حركة حماس في وقت سابق زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا، ودعت في بيان لها "لعدم إتاحة الفرصة للكيان الصهيوني لاختراق المنطقة، والعبث بمصالح شعوبها".

فيما يرى أبو دياب أن العلاقات بين البلدين "عادت طبيعية"، لكن يمكن أن تهتز إذا خرجت الأمور عن السيطرة. ويضيف: "الوقائع والمصالح ستبقى أقوى".