يرى محمد حسنين هيكل ان العرب قد واصلوا التفكير والتصرف بعقلية الحرب الباردة، بعد انتهاء هذه الحرب والمقصود بها الصراع بين الاتحاد السوفياتي السابق وبين الولايات المتحدة. ومن ذلك الحرب التي اديرت ضد الوجود (الاحتلال) السوفياتي لأفغانستان، ومحاولة حصر النفوذ السوفياتي في بعض دول افريقيا. أورد هيكل ذلك في حديثه الاسبوعي الاخير عبر محطة «الجزيرة».
وهذا التوصيف قد لا يجانبه الصواب من ناحية النظر التاريخي، اي النظر بعيون المؤرخين، لكن هذا الوصف يظل ناقصاً اذ انه مع استمرار توثيق العلاقات مع الولايات المتحدة لدى مجموعة من الدول العربية، فان مجموعة اخرى واصلت التمسك بعقلية الحزب الحاكم والاقتصاد المركزي الموجه، وتأميم الحياة السياسية والحزبية، وهذا التمسك يعكس في بعض وجوهه عقلية الحرب الباردة والانقسام الايديولوجي، والاخذ بالنموذج السوفياتي في الحكم. اي ان توصيف هيكل صحيح، ولكنه يلقي الضوء على جانب واحد من المشهد، دون الجوانب الاخرى.
وفي رأي الكاتب الصحفي والمؤرخ، ان طريقة التخلي العربي عن صداقة الاتحاد السوفياتي، لم تضمن للعرب اقامة صداقة مع الطرف الذي خرج منتصراً وهو الولايات المتحدة، بينما ترى واشنطن في تلك ابيب مثلاً حليفاً استراتيجياً ثابتاً وموثوقاً، خلافاً للعرب الذي سهل عليهم التخلي عن الطرف الدولي الآخر.
في واقع الامر وبعيداً عن العواطف، فان «الشعوب السوفياتية» هي التي تخلت اساساً عن نظام الحكم في بلادها. وذلك دون حجب الفوارق في هذه الحالة بين صداقات او علاقات دولية وبين الوضع الداخلي، خاصة وان اطرافاً عربية بقيادة مصر آنذاك، هي التي سعت لصداقة الاتحاد السوفياتي، والصحيح في ضوء ذلك، ان العرب لم يحسنوا في تاريخهم السياسي الحديث (بعد استقلال دولهم) لا ارساء صداقات ثابتة ولا تنظيم خلافاتهم مع الآخرين، مع استثناءات قليلة هنا وهناك، بصورة تضمن مصالحهم في الامد المباشر والبعيد.
ومن المهم الآن الاستفادة عبر هذا التاريخ بعد ان تغيرت الدنيا، فالاتحاد السوفياتي زال، لكن روسيا باقية كدولة كبرى وشعب عريق، وفرص الصداقة معها واسعة. اما دول اوروبا وبعضها في شرق القارة التي كانت تؤلف «المعسكر الاشتراكي»، فانها تعمل على بناء وحدتها وازدهارها واستقرارها مع دول غرب القارة، في اول واضخم تجربة قارية في عالمنا، رغم التنوع اللغوي والعرقي والديني بينها. والصين تبني تجربتها الاشتراكية الخاصة، ولكن ليس بمعزل عن موجبات التعاون مع بقية دول العالم بما فيها الولايات المتحدة.
ومغزى ذلك، وبعد ان اصبحت الحرب الباردة وانحيازاتها وراءنا، فان العرب يملكون ان يفعلوا الكثير داخل بلدانهم وفي العلاقات ما بينهم، ومن قبيل وضع حد لحروب ساخنة تشتعل في قلب منطقتهم.
والغريب اننا اذ نطالب العالم ان يتعامل معنا ككتلة اقليمية - قومية واحدة، وعدم الاستفراد بمكونات هذه الكتلة، فاننا لا نتصرف ما بيننا على هذا الاساس، اي على اساس كوننا كتلة واحدة ومتجانسة، وقلما يأخذ «الأشقاء» بمصالح الآخرين، او بخصوصيات اوضاعهم. وهذا هو سر ضعف الوزن المعنوي للعرب، وكونهم لم يعودوا لاعبين اساسيين لا على المسرح الدولي ولا حتى داخل منطقتهم. وحيث تستقوي اطراف عربية بطرف خارجي، على بقية الاشقاء.
وبذلك فان هناك ما يشبه الحرب الباردة، ما زالت تفعل فعلها بين مكونات الاقليم العربي.