الخميس: 13. 10. 2005

من الامور التي استعصت على الفهم مع بدء الهجوم الأميركي على المنطقة يتقدمه حملة بيارق الديموقراطية من المحافظين الجدد، أن هؤلاء لم يتعبوا من تأكيد عالمية الديموقراطية والحرية ورفعها إلى درجة الخطة الكونية الالهية للعالم على لسان بوش (مثلاً في خطابه قبل عامين امام «الصندوق القومي للديموقراطية: يوم 6 تشرين الاول (اكتوبر) 2003. ولا شك ان هذه النظرة الميتافيزيقية للحرية التي تذكر بماركس الشاب وبالهيغليين الجدد عموماً بعد موجة الديموقراطية الأولى وربيع الشعوب في العام 1848، تحمل معانٍ ثورية أهمها رفض الصيغة العنصرية القائلة بعدم تلاؤم الحضارة الإسلامية أو غيرها مع الديموقراطية. إنهم يعتقدون أن مبادئ الديموقراطية صالحة لكل زمان ومكان، وفي كل دولة. ويؤكد ذلك جورج بوش في خطاباته المتكررة وآخرها خطابه أمام «الصندوق القومي للديموقراطية» من يوم 6 اكتوبر 2005.

ما المستعصي على الفهم هنا؟ لا، ليست «تروتسكاوية» المحافظين الجدد المقلوبة ولا ثورتهم الدائمة ورغبتهم في تصدير الديموقراطية، ولا شغفهم بالأيديولوجية والتبريرات الفكرية النخبوية الطابع، بل وجودهم في المعسكر نفسه في السياسة الخارجية مع مدارس تبدو كأنها في الجانب الآخر من المتراس نظرياً، لكنها على الجانب نفسه من المتراس في السياسة الخارجية. فان مراجعة لكتابات صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات منذ مقالاته في مجلة «فورين افيرز» من العام 1993 وطوال العقد الأخير من القرن العشرين حتى يومنا، وكتابات برنارد لويس من قبله، نجد أن الحضارة الإسلامية، وفي مركزها الثقافة الإسلامية، وفي مركزها منظومة قيم إسلامية غير ودودة للقيم الديموقراطية. نحن أمام نظرة جوهرانية للحضارة، لا شك في ذلك. وفي تلخيصه للقيم الإسلامية المدعاة اعتمد هنتنغتون على تنظير برنارد لويس. يفترض طبعاً أن هذه الأفكار مضادة تماماً لما يقوله المحافظون الجدد، فلماذا لا نسمع منهم انتقاداً واحداً ضد هؤلاء؟ بالعكس تماماً إننا نجدهم يتقاطعون في الأوساط نفسها، وفي مراكز البحث والأوساط السياسية ذاتها.

والحقيقة ان التدقيق في التصورات النظرية يعمي الأبصار عن الصورة السياسية الشاملة. فكلا التيارين تيار واحد في السياسة الخارجية. ويبدو أن الموقف المحافظ من عدم تقبل الإسلام للديموقراطية وصراع الحضارات الأبدي يعبئ للحرب والكراهية، وأن التيار الثاني يضع ذرائع هذه الحرب. فالديموقراطية لديه تفرض فرضاً بقوة السلاح مما يؤكد المقولة النظرية الأولى أن الإسلام بذاته لا يتقبل الديموقراطية. العلاقة بين التيارين أوثق إذاً مما يتصور الشباب المحافظين الجدد والأساتذة الجامعيين من المحافظين الشيوخ.

في التطبيق طرح تصدير الديموقراطية كذريعة بعدما ثبت بطلان ذرائع أخرى من نوع مكافحة أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب بثبوت عدم وجود أسلحة دمار شامل ونفي العلاقة بين العراق وهجمات الحادي عشر من سبتمبر. هنا تثبت واقعية التعامل الأميركي معها كأداة وليس كنسق قيمي جاهز للتصدير. وعندما يضاف إلى ذلك التمييز بين الأنظمة في العالم العربي ليس بموجب المعيار الديموقراطي، بل بموجب الفرق بين أنظمة صديقة وغير صديقة، وأنظمة معتدلة وأخرى راديكالية، بما في ذلك في خطاب بوش الأخير، يثبت أنه في سياسات القوة والمصالح الأميركية ليس المعيار هو الديموقراطية ولا التزامها. ويبدو انه في حالة الصراع ينشأ ميل لتهميش هذه المسائل الفكرية لصالح المصالح والتحالفات وسياسات القوة.

كان هذا سائداً في فترة الحرب الباردة وغير الباردة مع الاتحاد السوفياتي التي درج المحافظون الجدد على الاعتذار للعرب عن سياسة بلادهم إبانها لأنها لم تدقق في شكل وممارسات وجوهر الأنظمة الحليفة في هذا الصراع مضحية بذلك بالقوى الديموقراطية أو المناضلة من أجل حقوق ديموقراطية. لم تسمح لها إذاً ضرورات المواجهة مع شر كبير كالاتحاد السوفياتي برفاهية النظر إلى مثل هذه التفاصيل مثل خرق حقوق الإنسان أو الدكتاتوريات.

لكن السياسة التي تدعي تصدير الديموقراطية على النطاق العالمي بشكل عام، والعربي بشكل خاص خلقت لنفسها فكرياً صورة عدو شمولي جديد، كما وسعت على أرض الواقع حلبة نشاطه. حرب جديدة تحت شعار الديموقراطية قد تحتم ضرورات جديدة لتحالفات تهمل الديموقراطية ذاتها. وأي مقارنة بين خطاب بوش المنطلق المتفائل الحماسي في المناسبة نفسها قبل عامين وقد خصص لنشر الديموقراطية وتقديمها كأننا نقرأ من جديد مقال هنتنغتون عن موجات الديموقراطية الثلاث من جهة، وخطابه الأخير المخصص للعدو الجديد ألا وهو «الإرهاب الإسلامي» أو «الفاشية الإسلامية» وطرق مكافحته وضرورة الانتصار عليه من جهة أخرى، تثبت أننا أمام مرحلة جديدة في تشخيص العدو.

فالسلام نفسه بات يعني « الانتصار على هذا العدو وسوف ننتصر» (لا يفوت بوش على طول الخطاب طبعاً ان يميز بين الإسلام وبين هذا العدو الذي يستغل الإسلام). ما يهمنا هنا هو تولد عدو جديد يقارنه بوش صراحة في خطابه مع هتلر وستالين وبول بوت وغيرهم من الأنظمة الشمولية. ويتهمه بوش بمحاولة إقامة إمبراطورية إسلامية شمولية تمتد من اسبانيا وحتى اندونيسيا. وهو يقوم بهذه المقارنة جدياً إلى درجة انه يقتبس جملاً من الزرقاوي وبن لادن.

يعتبر بوش «الإرهاب الإسلامي» «الخطر والخصم الأول في القرن الواحد والعشرين». تخيل عزيزي القارئ مثل هذا القول من جانب رئيس الإمبراطورية الوحيدة والانطباع الذي يتركه! ويعظم ويضخم بوش هذا العدو الجديد إلى درجة لا بد انها ستثير إعجاب بعض من يكرهون أميركا إلى درجة اعتبار هذا الخصم هو البديل التاريخي المطروح لأميركا. هذا هو الخطر الأول الذي يستدل عليه من خطاب بوش الأخير. اما الخطر الثاني فيكمن في تعظيم هذا العدو إلى مستوى المواجهات الكبرى مع الفاشية والشيوعية، أي إلى تبرير التحالف مع قوى غير ديموقراطية ضده. فأين وصلنا؟ عدنا إلى المربع الأول. حرب تشن من اجل الديموقراطية وتؤمن أن الاستبداد ينتج إرهابا وان الديموقراطية من وسائل مكافحة الإرهاب إلى ان يصل بوساطة الحرب والاحتلال إلى المساهمة في توسيع نطاق عمل الإرهاب وتهويل شأنه كعدو إلى درجة التحالف من جديد مع قوى غير ديموقراطية من أجل هزيمته. فماذا جلب المحافظون الجدد من بيت أهلهم كما يقال؟

يشكل خطاب الرئيس الأميركي الأخير أمام مؤسسة «الصندوق القومي للديموقراطية» مرة أخرى وثيقة حقيقية حول الأيديولوجية وخطاب الإدارة الأميركية في الشؤون الخارجية. ويبدو بعد إعصار كاترينا والمصاعب التي يواجهها بوش اثر تعيين محاميته الشخصية كقاضية في المحكمة العليا، وخيبة أمل المحافظين الجدد حتى من سياسته الداخلية ( انظر رد فعل وليم كريستول، محرر «ويكلي ستنادرد»، مجلة المحافظين الجدد، على هذا التعيين الأخير) إن هذا الخطاب السياسي هو أداة للهيمنة الأيديولوجية داخليا أيضاً، خصوصاً أنه يساير ويعيد إنتاج أفكار مسبقة حول الإسلام لا بد أنها منتشرة في وسائل الإعلام الشعبية، ويقدمها كتبة بوش كخطاب سياسي يحكمه نسق ويقدم للجمهور بصلصة، آسف بسلطة رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم.

لكن أي مقارنة بخطابات سابقة في هذا المكان وفي هذه المناسبة تلاحظ في خطاب بوش الكثير حول الإرهاب، والقليل حول الديموقراطية. لقد تبددت أوهام كثيرة في العامين الماضيين. واحتل موضوع تشخيص العدو وسبل مكافحته حيزاً أساسياً من الخطاب. كما وجد بوش نفسه مضطراً لأن يأخذ الجمهور الأميركي في رحلة شرح بعيداً عن توحيل سياسته في العراق، وعن ازدياد عدد الضحايا الأميركان وخلاف ذلك. وقد اتبع كتبة الخطاب في ذلك الأدوات التالية: 1. اعتبار الإرهاب شراً أعظم كما أسلفنا إلى درجة وضع الدول التي ترعاه في الظل. فالإرهاب هو محور الشر في أيام تل عفر والفلوجة والحديثة وغيرها. وهو صانع حقب تاريخية كما بدا من هذا الخطاب. 2. انه شر مطلق أصم بلا سبب واضح بالإمكان التعامل معه أو معالجته، ولا مطالب واضحة يمكن تلبيتها. فهدفه هو التدمير ونفي الآخر، والآخر هو أميركا، أو نمط الحياة الغربي، أو الديموقراطية، أو التقدم والحرية، أي شيء. 3. الإرهاب هو حركة أقلية نخبوية تفرض رأيها على الجماهير، كما في حالة انماط الاستبداد الشمولية الأخرى. 4. يراهن الإرهاب على «ضعفنا» ويروج «أننا جبناء». هنا يقوم بوش باستثارة الحمية باقتباس الزرقاوي مباشرة الذي يدعي حسب بوش أن الأميركيين هم أجبن خلق الله. 5. الإرهاب ينتشر في العراق حالياً بهدف إحباط محاولة تحول ديموقراطي. وهو يشتد مع ازدياد تصميم أميركا على إجراء هذا التحول، رغم أن الطريق صعبة وشاقة. ويحضر بوش الرأي العام إلى صعوبتها ولتقبل حجم وعدد الضحايا التي سوف تسقط، ولكن ليس بسبب الاحتلال بل بسبب الشر. 6. إذا هربت أميركا الآن من العراق كما هربت من الصومال ولبنان فسوف يحكم العراق الزرقاوي وبن لادن... عدنا إلى هنتنغتون. هنا يتبين مرة أخرى أن تفسير المحافظين الجدد يتلاءم مع هنتنغتون فإذا كان الاسلام لا يتقبل الديموقراطية، فيمكن إدعاء العكس ثم فرض ما يدعى أنه ديموقراطية بالقوة.

للتذكير فقط: لم يكن في العراق لا زرقاوي ولا بن لادن قبل الاحتلال الاميركي.

علينا كما يبدو ان نترجم فقرات كاملة لتصوير حجم الديماغوجيا التي تجاوزت كل حد يفصل الواقع عن الخيال. خذ مثلاً كيف يقلب بوش ادعاء المعادين للحرب حول وجود خلفية اجتماعية لتطور العنف الإرهابي وكيف يستخدمه في صالحه من دون أي معالجة للخلفية الاجتماعية نفسها: «إلحاق الهزيمة بالشبكات المتطرفة مهمة صعبة. لأنها تزدهر مثل الطفيليات على معاناة وإحباط الآخرين. ويستغل المتطرفون الصراعات المحلية لبناء ثقافة الضحية والتي بموجبها يجب لوم طرف آخر دائماً، والعنف دائماً هو الحل. انهم يستغلون الشباب اليائسين الذين يشعرون بالمرارة ويجندونهم كأداة طيعة للإرهاب من خلال المساجد المتطرفة. إنهم مثل الطفيليات على معاناة الآخرين». ولكن ماذا بالنسبة لمعاناة الآخرين ذاتها؟ لا جواب... «إنهم يستغلون صراعات محلية»... هكذا يسمي بوش الاحتلال الاسرائيلي مثلاً... «لغرض تشكيل ثقافة الضحية ولوم الآخرين. والعنف دائماً هو الوسيلة»... هكذا تصور مقاومة الاحتلال وليس الاحتلال ذاته، كأحد مصادر الإرهاب.

وتصل قمة الديماغوجيا في فقرات من النوع الآتي: «ادعى البعض ان عمليات ائتلافنا في العراق قد قوّت التطرف، باعتبار ان وجودنا في ذلك البلد قد فجر غضب الراديكاليين. اود ان اذكرهم بأننا لم نكن في العراق يوم 11 سبتمبر 2001، وقد هاجمتنا القاعدة على أي حال. كان عنف المتطرفين قائماً قبل ان يكون العراق موضوعاً، وسيكون موجوداً بعد ان يتوقف العراق عن أن يكون تبريراً. لم تدعم حكومة روسيا عملية الحرية للعراق ومع ذلك قتل المتطرفون 180 تلميذ مدرسة في بيسلان». لم يدع أحد لا من المتعاطفين ولا المناهضين للعملية الإجرامية يوم 11 سبتمبر ضد المدنيين الأميركيين أن السبب هو الوجود الأميركي في العراق. هذا ادعاء لا يستحق نعت ديماغوجيا. وبالعكس كانت المشكلة ادعاء أميركا وجود العراق في العملية كتبرير لشن الحرب على العراق. واذكر ان ريتشارد كلارك منسق مكافحة الإرهاب في الإدارة في حينه قال في شهادته أمام الكونغرس انه أحس بألم جسدي عندما أدرك أن رامسفيلد وولفوفيتز يحاولان استغلال العملية من اللحظة الأولى للدفع باتجاه الحرب على العراق. ويستطيع أي عراقي أن يقول: «ليس هدف أميركا مكافحة الإرهاب، فقد تم شن الحرب على العراق واحتلاله رغم تفنيد وجود علاقه له مع الإرهاب». وسيكون بقوله هذا أقل ديماغوجية بكثير من الرئيس الأميركي. اما بالنسبة للعملية الوحشية والإجرامية والبربرية التي لا مبرر لها في مدرسة بيسلان، ناهيك عن التقليد الروسي البوتيني في التصدي للعمليات كأنها لعبة كارتيه، فليست خلفيتها عدم دعم روسيا لأميركا في العراق بل قضية الشيشان... لا حدود لديماغوجية كتَّاب خطابات جورح بوش. وإضافة لكل شيء يقدم هؤلاء نموذجاً تربوياً سيئاً لاستخدام الكذب والاستنتاجات غير المنطقية في الوقت ذاته للمجتمع الأميركي.

ما لبث كاتب الخطاب أن عاد إلى مبررات الوجود الاميركي في السعودية والاحتلال في فلسطين في موضع آخر: «لقد استخدم المتطرفون عبر السنين تشكيلة من التبريرات للارهاب... الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية الوجود الاميركي في السعودية... وفي الواقع نحن لا نواجه سلسلة من أعمال الظلم يمكن معالجتها...» الاحتلال الإسرائيلي ليس واقعاً من الضيم، بل هو مجرد تبرير لأعمال إرهابية، وبما أنه تبرير فلا يصح اذاً إلا اقتلاعه كوهم من الأذهان ورؤية عملية استغلاله فقط من قبل الشر المطلق. أما رؤيته هو فعمل ليس ذي صلة بمعركة القرن الواحد والعشرين.

ذكر بوش في خطابه من يوم 6 اكتوبر 2003 أنه كما تعود جذور الديموقراطية الأميركية إلى البرلمان الانكليزي كذلك تعود جذور مهمات «الصندوق» وسياسته هو في هذه المناسبة إلى خطاب رونالد ريغان في وستمنستر التي أعلن فيها نهاية التعايش مع الاتحاد السوفياتي كشر أعظم. هنا يبجل كتّاب خطاب بوش ويعظمون من شأن السذاجة والمباشرة والعفوية والبساطة التي تميز بها ريغان برأيهم وأثارت غضب الأوروبيين مؤكدين أن رئيساً قد يبدو بسيطاً وساذجاً وربما أحمقاً وهو يقرأ الخطاب الذي كتب له قد يؤدي دوراً تاريخياً عظيماً في التعامل مع شر لا يفهم إلا لغة القوة. ويكرر بوش في خطابه الأخير القول: «لقد تعامل بعض النقاد بازدراء مع خطاب الرئيس ذاك. وبموجب مقال في جريدة التايم آنذاك من الصعب أن تكون أوروبيا مركب الشخصية وان تكون معجباً برونالد ريغان (ضحك). اعتبر بعض المراقبين على جانبي الأطلسي الخطاب تبسيطي وخطير وساذج. وفي الجقيقة كانت كلمات ريغان شجاعة ومتفائلة وصحيحة. (تصفيق)» ورد التصفيق والضحك بين أقواس هكذا في البروتوكول. وعلى كل حال يقول بوش: قد تعتبروني تبسيطياً وأحمقاً وسوف يتضح في الواقع أن ما أقوله هو كلام نبوة تماما مثل الرئيس الأحمق الذي سبقني رونالد ريغان. لا بد أنه خداع العقل في التاريخ.

في هذه الايام يبدو ان الطبيعة ذاتها لا تحتمل ما عليها من بشر من المسيسبي وحتى الهملايا مروراً بغواتيمالا، ولذلك يبدو كل شيء نسبياً. بما في ذلك إلقاء خطاب، ناهيك عن كتابة مقال.


كاتب عربي.