الثلاثاء: 08. 11. 2005

...«إما نحن وإما الفوضى»


وضاح شرارة

طوال شهور دامت معظم العام السائر الى ختامه، كرر خطباء لا يحصون في القاهرة وعمان وبيروت وبغداد وغزة ودمشق، على المنابر والشاشات والاذاعات، «خطبة» واحدة. وذهبت الخطبة هذه الى أن علة الكوارث التي تصيب البلدان العربية، وتنزل بشعوبها، علة واحدة هي قول بعض النافذين الأميركيين، تتصدرهم وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، بـ «الفوضى الخلاقة». وجمعت «الفوضى الخلاقة»، بعد تأويلها سبباً فكرياً ومفهوماً عملياً، الى عزم السياسة الأميركية على حمل الأنظمة العربية الحاكمة والمحافظة على إرخاء قبضتها على مجتمعاتها، والى حض هذه المجتمعات على المشاركة في معالجة بعض مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية المزمنة من تلقاء نفسها ومبادرات أفرادها.

وصدرت السياسة الأميركية المثلثة – وفي قلبها حرب العراق وإقصاء صدام حسين، بعد حرب أفغانستان وإقصاء «طالبان» الملا محمد عمر – عن تعليل تنامي «القاعدة» بركود معظم المجتمعات و»الدول» العربية والإسلامية، وإنكارها وجوه الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ما خلا الوجوه الاستهلاكية التي تبتاع بعوائد النفط وريوعه المترجمة بين ركود وتعاظم. وتوسلت هذه السياسة الحرب والديبلوماسية والمفاوضات والاتفاقات الاقتصادية والدعاوة والإعلام، الى غاياتها المعلنة. ولكن هذه الوسائل، على كثرتها وتباينها (الذي قد يبلغ مبلغ التنافر والتدافع)، اختصرت في الحرب وحدها. واختصرت الحرب في الدمار الفظيع، وترويع المدنيين وقمع المسجونين والأسرى العزل وإذلالهم، وفي أرقام القتلى والضحايا من أي جهة أتوا. ويتماشى هذا تماشياً تاماً مع انقلاب الإعلام إلماعات («فلاشات») مفحمة تقطع قول كل خطيب وقائل ومحتج، شأن جهينة في كتب النحو القديمة.

وعلى مثال معروف ويكاد يكون ثابتاً، أرخ للمصائب والعثرات والسقطات كلها، بسياسة «الفوضى» الأميركية المفترضة، وبمباشرتها. وإذا بأحمد الخلايلة الزرقاوي نفسه، وبفظائعه ورؤوس ضحاياه المجزوزة وتعمده اغتيال العراقيين الشيعة واستدراجه هؤلاء الى الرد بالعدوان على السنّة، وإذا باستيلاء التيارات والحركات والأحزاب المذهبية والمحلية على المرافق العامة في المدن العراقية وفي الأرياف – من صنع «الفوضى» العتيدة. وهذا، بديهة وطبعاً، شأن الفيديرالية والطائفية (بمصر ولبنان، على سبيل المثال، الى العراق) وتململ الأقليات القومية والمذهبية والدينية، وغلبة الليبيرالية على الديموقراطية (وهذا هو الهول بعينه) وترك الدولة وأبنيتها الشامخة الى النزعات المحلية الضيقة والفقيرة، والسهو عن العدو الأعظم، والتشكك في «المقاومة» والثوابت، والانغماس في الفساد...

وطوال الشهور المنصرمة، لم يعوض (عن) تداعي هذا كله، وتفرعه عن «الفوضى الخلاقة» إلا تعاظم الخسائر الأميركية البشرية وبلوغها، في «إحصاء رسمي» تغمز صفته الرسمية من صدقه، ألفي قتيل في أواخر تشرين الأول (اكتوبر). وبلوغ عدد الجرحى المعوقين ومبتوري الأطراف ثلاثة أضعاف الى أربعة عدد القتلى. وربما عوّض كذلك، من وجه آخر، تفاقم الخلاف الأميركي الداخلي على الحرب، وعلى إدارة الرئيس الأميركي «إدارته» وبعض سياسته (وتتعقب بعض الأقلام العربية علامات الخلاف بشغف يكاد يكون أميركياً). فحجب التعويض المزدوج هذا حوادث سياسية أخرى كانت، الى وقت قريب، في صلب أهاجي «الفوضى الخلاقة».

ولعل أبرز هذه الحوادث هو، من غير «تصنع» كلامي (على قول شوقي ضيف)، عودة الحوادث الى السياسات العربية، أو عودة الحادثة السياسية. فاقتراع العراقيين مرتين في سنة واحدة، وقبيل الثالثة في منتصف الشهر المقبل، وإشهارهم انقسامهم على معالم هويتهم أحزاباً مختلفة، وإسنادهم الانقسام الى مبادئ أو مزاعم دستورية وقانونية، وحرصهم على تغليف انقساماتهم بمزاعم من هذا الصنف، وتسلل الانقسام الى الكتل الأهلية الواحدة، واضطرارها الى ترك الإجماع وتشكيلها لوائح متنافسة قد يؤلف بعضها بين مصادر مذهبية وقومية متباينة؛ وطلب المرجعية الشيعية الانكفاء ورفضها تأييد ائتلاف رعته قبل نحو عشرة شهور، ونجاح السياسيين السنّة، وربما قلة من الشيعة معهم، في اقناع معظم ناخبي محافظتين (الأنبار وديالى) بالاقتراع برفض مسودة الدستور، هذه الحوادث، وغيرها مثلها، إنما هي قرينة قوية على انبعاث السياسة، ودبيب حوادثها، في الجسم العراقي القائم من بين المآتم الصدامية والبعثية.

وهذا يحقق حصول «عملية سياسية» فعلية في العراق، باهظة الثمن، وتدين بجزء منها، وببعض مناحيها، الى الجماعات الارهابية نفسها، ولكنها لا تنكر. وما لا ينكر كذلك، لتعسنا العظيم، هو أن «العملية السياسية» هذه وأمثالها لم تكن لتلوح في الأفق العربي من قبل، ولم يكن يقيض لها أن تلوح. فما كان يخنقها في المهد، ولا يزال يخنقها هنا وهناك، هو تضافر «نظام» إقليمي كاسر وذئبي (تنوب عنه دول «محورية» في دوائرها) مع استيلاء داخلي طاغ على قفل الدول والمجتمعات، وإيصاد بابها بوجه التغيير، أي «الفوضى».

فالجمع بين إطلاق يد الكتل الحاكمة في سوس مجتمعاتها وجماعاتها على ما ترتأي، أي تحجيرها على حال ثابتة، وبين فرض تراص الدول والسياسات والمجتمعات وراء نظام إقليمي تملي سياسته المعلنة وتماسكه الظاهر الدول أو الدولة الأكثر غلواً في حربها على «أميركا – إسرائيل» – هذا الجمع المحكم أدى الى تجريم المنازعات والخلافات كلها، ووصمها بالمروق. وأبطل مشروعيتها السياسة جراء ذلك.

واستجاب الجمع (وهو استحال مذهباً وعقيدة) رغبات أهلية «قومية» عميقة. وشفع المذهب هذه الرغبات بسياسة اجتماعية جزت فئات عريضة من مهاجري الأرياف، المتعلمين تعليم الكفاف، ارتزاقاً آمناً ومستقراً. وخيرت «النخب»، ومن ينسب نفسه الى «مكانتها»، بين خصي أنفسها (ولو في معارضة متلعثمة أخلاقاً وفكراً) وبين سلخها وانسلاخها عن هوية تخدمها النخب هذه، وخصوصاً «المثقفة» منها، بأشفار عيونها، على قول لـ «جهاد البناء» و «مؤسسة الشهيد» الخمينيين. وانتهج النهجَ نفسه، أي التخيير الماجن هذا، في الجماعات الأهلية، الدينية والمذهبية والقومية.

فلم يبقِ منفذاً للتغيير أو باباً إلا الخارج، على معانيه وأقنيته العسكرية والديبلوماسية والاقتصادية والثقافية، حتى صار التغيير (والسياسة صنوه) مرادفاً للخارج، والميل اليه ومواطأته. والخارج هو مرادف السيطرة الغاشمة والمدمرة، وقرين العولمة «الأميركية»، أو بالأحرى «اليهودية» و»الصهيونية» المقنعة بقناع الرأسمالية والتجارة الحرة والليبيرالية والقوانين والتحقيقات الدولية. وهو مرادف الفوضى والاضطراب والحرب الأهلية («اللبننة» التي لا تسمى، أو لا يسميها عبدالحليم خدام وأمثاله) التي تلوح الكتل الحاكمة بها ثمرة محتمة لزعزعة سيطرتها، و»لفصل القيادة عن الشعب»، على قول شائع هذه الأيام. وقفل الحال على هذه الشاكلة، قولاً وعملاً، ثقافة وإجراءً، شل قوى الداخل السياسية والاجتماعية، وقضى فيها وعليها بالضعف والعزلة والركود والكلام «المبدئي» والمكرر، وبالخوف من الخارج، وخشية التغيير، والترجح العقيم بين الرغبة في التغيير والتحرج من شرائطه المتاحة وغير المأمونة.

وحين يقيس المراقب هجاء «الفوضى»، أي التغيير على وجوهه كلها، الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والثقافية، بمديح «الثورة»، وعلو نبرته منذ «المدّ» الناصري، ثم «الحقبة» الفلسطينية فـ «الموجة» الخمينية، يدرك ربما حال الذعر التي تتلبس أصحاب الهجاء هذا وأهله، على رغم ما يتذرعون به من مقاومة وبندقية وتصد وإرادة ودورة تخصيب كاملة وتمارين بهلوانية ومجالس عزاء في تقارير قضائية. وهم يشبهون، اليوم، فقهاء «فقه الحيض والنفاس» (الذين ندد بهم روح الله خميني قبل ثلث قرن من الزمن). ووجه الشبه هو قصرهم انتباههم على تفاصيل ثانوية واجرائية معظمها أمني صغير، وتركهم المسائل السياسية الكبيرة: ما غايات الحكم؟ كيف تقسم السلطات وكيف تجمع؟ كيف يحصل التغيير؟ والأجوبة العراقية واللبنانية والمصرية، وربما الفلسطينية غداً، تتصدى لهذه الأسئلة. وتحاذي أحياناً كثيرة الفوضى. فتخيير المجتمعات: «إما نحن (واستبدادنا وعقمنا وموتكم اختناقاً) وإما الفوضى»، حصاده الى يومنا هذا هو: أنتم والفوضى معاً. فقد يكون، على هذا، فك الخيارين واحدهما من الآخر خطوة خارج الهاوية.


كاتب لبناني