د. محمد قيراط


شكل الإعلام عبر العصور والحضارات وما زال يشكل حتى يومنا هذا مصدر الاهتمام الكبير والمتنامي من قبل الجميع. فالإعلام هو الرافد الاستراتيجي للثقافة والسياسة والاقتصاد والحرب والسلم...الخ. فصاحب الإعلام القوي يستطيع أن يمرر صورته وكلمته ورأيه ويستطيع أن يؤثر في الأخر وأن يوّجه الرأي العام في الاتجاه الذي يريده.

فالساسة الكبار ورجال الأعمال الناجحون وصناع القرار والرأي لا يستطيعون أن يستغنوا عن الإعلام ولا يستطيعون النجاح بدونه. فالحروب أولها الكلام، والعلاقات الحميمية والصديقة بين الدول تمهد لها وسائل الإعلام بمخرجاتها ورسائلها المختلفة. العالم العربي والإسلامي اليوم يعاني من مشكلتين كبيرتين:

الأولى تتمثل في عدم فهم الأخرين له وعدم إدراكهم لحقيقة الحضارة والثقافة العربية والدين الإسلامي، فهناك تزييف وصور نمطية وتشويه وتضليل.

أما المشكلة الثانية فتتمثل في أن العرب ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة فشلوا فشلا ذريعا في تصحيح المغالطات والتشويه والتضليل كما فشلوا في مخاطبة ومحاورة الأخر بلغته ومنطقه، الأمر الذي أدى إلى إخفاقهم في تقديم صورتهم الحقيقية للأخر. فهناك مشكلة اتصال كبيرة جدا بين العرب والآخرين الأمر الذي أدى إلى عدة مغالطات والتباسات وصور نمطية انعكست سلبا على معاملة الآخر للعرب والمسلمين.

شهدت الأيام القليلة الماضية سواء في الرياض ـ المنتدى الإعلامي الثالث للجمعية السعودية للإعلام والاتصال ـ أو في دبي ـ مؤتمر الإعلام العربي والعالمي ـ نقاشات وحوارات ولقاءات ساخنة بين مهنيين وصحافيين وأكاديميين وسياسيين حول واقع الإعلام العربي والتحديات التي يواجهها في عصر الانفجار المعلوماتي والتكنولوجيا الرقمية. ففي الرياض نظمت الجمعية السعودية للإعلام والاتصال مؤتمرها الثالث تحت عنوان laquo;التعليم والتدريب الإعلامي في الوطن العربيraquo; حيث ناقشت إشكاليات مهمة ومحورية في عملية التدريس والتكوين والممارسة الإعلامية.

الجميع يكاد يتفق على أن الإعلام العربي يعاني من عقم كبير ومن ضعف خطير في القيام بدوره محليا ودوليا وفي مواجهة الأخر وتقديم الصورة الحقيقية عن العرب والمسلمين والإسلام للأخر. أين يكمن الإشكال؟ في الرياض تم فتح محور التعليم والتدريب الإعلامي، وهل أقسام ومعاهد وكليات الإعلام والاتصال الجماهيري تقوم بدورها كما ينبغي في عملية تأهيل وتكوين الصحافيين حتى يقوموا بدورهم ومهامهم على أحسن وجه. ما هي العلاقة بين المؤسسات الإعلامية وأقسام الإعلام والاتصال في الوطن العربي؟

هل يطغى على التكوين الإعلامي المساقات النظرية؟ هل جرعة ساعات التدريب قليلة؟ أين يكمن الخلل؟ وهل أقسام الإعلام سواء في الوطن العربي أو في باقي دول العالم تكوّن صحافيين جاهزين لخوض غمار الممارسة الإعلامية؟ أم أن الأمر يتطلب وقتا معتبرا والحرفية والمهنية لا تأتي إلا بعد سنوات من الممارسة الفعلية والحقيقية في أرض الميدان. هل تتحدد المشكلة هنا في التعليم والتدريب الإعلامي؟ أم أن هناك قضايا أخرى لها انعكاساتها وتداعياتها على العمل الإعلامي.

الدراسات النظرية والممارسة الميدانية تؤكد أن القائم بالاتصال ونظرا لأهمية المنتج الإعلامي الذي يصنعه بحاجة إلى مهارات فنية في الكتابة والتحليل ومهارات في استقاء المعلومة ووضعها في إطارها الصحيح وثقافة عامة قوية في مجال السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والإدارة إلى غير ذلك.

إضافة إلى ذلك القائم بالاتصال بحاجة إلى متابعة يومية لما يجري من حوله وفي العالم وقد تكون هذه المتابعة كل ساعة وبصفة مستمرة ودورية. هذا من جهة، من جهة أخرى القائم بالاتصال يقدم منتجا إعلاميا فكريا أيديولوجيا وسياسيا، له أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية الخ.. وهذا يعني أن العمل الصحافي يجب أن يحظى بقوانين وأخلاقيات وحماية وصيانة واحترام الجميع.

فالصحافي، حتى يؤدي مهمته ورسالته على أحسن وجه يجب أن يكون محمياً من طرف القانون ويجب أن يتحلى بالمسؤولية وبالأخلاق وبالقيم العالية حيث أنه يمثل السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الثلاث في البلاد وكذلك يمثل الشعب والمصلحة العامة. فالإعلام الفعال بحاجة إلى أرض خصبة تتميز بالديمقراطية وبالممارسة السياسية الفعالة وبمجتمع مدني قوي وبالفصل بين السلطات وبمواطن مسؤول وواع.

في الواقع الإعلام العربي يعكس الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الدول العربية. وحتى نكون واقعيين فإنه من المستحيل أن نطالب بإعلام مسؤول وقوي وفعال في مناخ سياسي غير ديمقراطي. ولا نستطيع أن نطالب بإعلام قوي في غياب مجتمع مدني قوي، وقوى مضادة وممارسة سياسية قوية...الخ. وانطلاقا من مبدأ فاقد الشيء لا يعطيه فالإعلام العربي لا يستطيع أن ينافس ويصحح الصور النمطية وحملات التضليل والتشويه في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها وينجز فيها مهامه وأعماله اليومية.

ففي غياب الحرية والفصل بين السلطات وأخلاقيات المهنة تصبح الممارسة الإعلامية نوعاً من الصناعة الروتينية التي تهتم بالقشور على حساب المضمون والمشكلات الحقيقية اليومية التي تعيشها الغالبية العظمى من الجماهير. وبهذا ينسلخ الإعلام عن المجتمع وهمومه وشجونه ويصبح وظيفة إدارية تجميلية تسّبح لصاحب السلطة والنفوذ.

قد يكون هناك قصور في التعليم والتدريب الإعلامي، قد يكون هناك تركيز من قبل أقسام وكليات ومعاهد الإعلام والاتصال الجماهيري في الوطن العربي على الجوانب النظرية على حساب الجوانب التدريبية العملية، لكن المشكل أخطر من هذا بكثير. المشكل يكمن في آليات صناعة القرار والفعل السياسي داخل كل دولة عربية.

فالصحافي العربي يجد نفسه في الكثير من الحالات يمارس الرقابة الذاتية ويتجنب الخوض في القضايا المهمة والحساسة التي من شأنها أن تغير مجرى الأمور وتصحح الأخطاء وتكشف المستور وتنير الرأي العام حتى يستطيع أن يناقش عن دراية همومه وقضاياه ومشكلاته. فإذا كانت الشفافية غائبة وإذا كانت الديمقراطية مغيبة في المجتمع كيف بنا أن نطالب بإعلام ديمقراطي شفاف وفعال في المجتمع. فالنظام الإعلامي في أي مجتمع وفي أي بلد ما هو إلا نظام فرعي من النظام وما هو في حقيقة الأمر إلا أحد مخرجات النظام.

فالنظام غير الديمقراطي يفرز نظاما إعلاميا عقيما وضعيفا لا يستجيب لواقع ومتطلبات واحتياجات الرأي العام في المجتمع. وفي هذه الحالة لا يستطيع أن يكون فاعلا ومحددا للمخرجات السياسية والاقتصادية في المجتمع.

في مؤتمر laquo;الإعلام العربي والعالمي ـ تغطية الحقيقةraquo; في دبي تم التركيز على الفشل الذريع للإعلام العربي في مخاطبة الأخر وفي تقديم الصورة الحقيقية للعرب وللإسلام للشعوب والثقافات الأخرى. فالصحافيون العرب وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى بناء جسور الحوار والنقاش والتعاون مع زملائهم في الغرب حتى يتسنى للشعوب أن تتعارف من خلال الصور الحقيقية والواقعية وليس من خلال الصور النمطية والتشويه والتضليل والحقد والضغينة وتصفية الحسابات وفبركة الواقع والتلاعب بالعقول.

فالإشكال المطروح في الألفية الثالثة هو التضليل والتشويه المتبادل بين الغرب والشرق. فصورة العرب عند الغرب مزيفة ومضللة ومشوهة وصورة الغرب كذلك عند العرب ليست كما يجب أن تكون، ولا تعكس الواقع في الغرب. وهذا التشويه والتضليل المتبادل لا يخدم الشعوب ولا يخدم تفاهمها وتقاربها وتعاونها من أجل سعادة البشرية ورفاهيتها.

فحوار الحضارات يجب أن يكون مبنياً بالدرجة الأولى على احترام الأخر واحترام إنسانيته وكرامته واحترام التنوع الثقافي والاختلاف في الرأي. ما نلاحظه اليوم، مع الأسف الشديد، هو الحروب والنزاعات والإرهاب والأعمال التخريبية والإجرامية في العديد من مناطق العالم. وهذا يعني أن الإعلام بدلا من أن يقّرب بين الشعوب والحضارات والثقافات ساهم إلى حد كبير في إشعال نار الفتن والنزاعات والحروب.

أستاذ الإعلام ـ جامعة الشارقة