دمشق - يوسف كركوتي:
تواصل سوريا حملتها الدبلوماسية والسياسية لمواجهة الضغوط الدولية التي تتعرض لها وخاصة بعد صدور القرار 1636 وربطه بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بمكافحة الإرهاب وإعلان دمشق أنها ستتعامل مع هذا القرار كأمر واقع وتشكيلها للجنة قضائية سورية خاصة للتحقيق في اغتيال الحريري واستعدادها الكامل للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية والقضاء اللبناني، ثم بعد صدور التقرير الثاني لرئيس لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري واستجواب مجموعة من ضباط الأمن السوريين في فيينا.
هذه الضغوط وتحرك دمشق لاحتوائها تفرز أكثر من سؤال يتعلق باستعداد سوريا لمواجهتها فما هي إمكانية نجاح سوريا في مواجهة الضغوط والتهديدات الخارجية، وما هي الأسس والمقومات الواجب توافرها على الصعيد الداخلي السوري والسياسة الخارجية السورية.
هذه الأسئلة توجهنا بها لعدد من النخب السياسية والفكرية والقضائية في دمشق وكان هذا الاستطلاع:
الكاتب والمحلل السياسي علي العبد الله يقول:
تكمن دقة اللحظة السياسية الراهنة في التداخل والتشابك والتعارض بين الملفات الداخلية والإقليمية والدولية، فتدويل عملية اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتعزيز عملية التدويل بقرار من مجلس الأمن الذي اعتبر عملية الاغتيال عملية إرهابية وربط التعامل معها بالقرار 1373 الصادر عام 2001 والذي ألزم الدول بالتعاون ضد الإرهاب، وارتكاز القرار 1636 على الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يفتح على عقوبات سياسية واقتصادية ويبقي الباب مفتوحا أمام استخدام القوة العسكرية من جهة، والقطيعة السياسية بين المجتمع السوري والنظام الذي تبنى ولا يزال عقيدة سياسية وجعلها دينا للدولة والمجتمع وكرس نظاما شموليا قائما على هيمنة الحزب الحاكم على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، حتى ldquo;الجبهة الوطنية التقدميةrdquo; التي أقامها مع أحزاب أخرى كرّست هيمنة الحزب لأن ميثاق الجبهة اعتبر الحزب حزبا قائدا ldquo;تتجسد قيادته في اعتبار مقررات مؤتمراته برنامجا للجبهةrdquo;، مع ميل واضح لتكريس زعامة فردية بإشاعة ثقافة ldquo;الزعامة الفرديةrdquo; وrdquo;القيادة التاريخيةrdquo;، ناهيك عن السيطرة على المجتمع عبر الأجهزة الأمنية من جهة ثانية. والفساد ونهب المال العام واستغلال النفوذ على مفاصل الاقتصاد السوري وحرمان هذا الاقتصاد من دورة إنتاجية طبيعية تثمر قيمة مضافة تتوزع على طبقات المجتمع، ما قاد إلى اختلال الهرم الاجتماعي بتآكل الطبقة الوسطى التي هبطت نسبتها من 60% - 70% إلى 35% بانتقال هؤلاء إلى مواقع في قاع الهرم الاجتماعي ما قاد إلى تآكل عوامل التماسك الاجتماعي وتدني الفاعلية الاجتماعية في كل المستويات الإنتاجية والإبداعية من جهة ثالثة.
شكل تداخل هذه الملفات كتلة ضاغطة ما جعل المعادلة السياسية الراهنة شديدة التعقيد والخطورة، والمخارج حساسة ودقيقة خاصة أن المشتبه فيهم السوريين باغتيال الحريري هم أعمدة النظام وحماته ما يجعل التضحية بهم في غاية الحرج والصعوبة.
من هنا فإن الرد على اللحظة السياسية والتهديدات والمخاطر التي تنطوي عليها يستدعي رزمة متكاملة من الحلول تتناول الملفات الداخلية والإقليمية والدولية تفكك النظام الشمولي القائم منذ عقود وتقطع مع القاعدة التي تبناها النظام في تعامله مع المجتمع: السياسة امن وإنهاء هيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة الوطنية وإعادتها إلى القمقم وإخراج الدولة بكل سلطاتها من أحشائها، وتضع البلاد على طريق الحرية والديمقراطية، وتحارب الفساد بتحرير النظام الاقتصادي من نهب المال العام، وتعيد النظر في محددات السياسة الخارجية، تحررها من ldquo;النزعة النضاليةrdquo;، والذي حولها إلى قيد اجتماعي وسياسي، والتي تنتمي إلى ثقافة انتهى عمرها الافتراضي، والتي استخدمت للجم الداخل السوري سياسيا واجتماعيا وتبرير نهبه اقتصاديا، وتبني سياسة خارجية عربية وإقليمية ودولية قائمة على ثقافة الدولة ومترتباتها ترتكز على توازن المصالح وعلى القانون الدولي. إن أول مستدعيات هذه الرزمة إبراز المسافة السياسية والواقعية بين الدولة والنظام وإعطاء الأولوية لمصلحة الدولة لأن الحفاظ على الدولة يضمن الحفاظ على مصالح المجتمع، وتقديم رواية النظام للعلاقات السورية - اللبنانية، وطبيعة ومستوى الخلاف مع الشهيد رفيق الحريري وإجراء تحقيق جاد، ودون قيود، وتقديم المدانين للعدالة الوطنية أو الدولية بتسليمهم للجنة التحقيق الدولية وتركهم يدفعون ثمن جرائمهم.
إن الرد الناجح يحتاج إلى قطع شامل مع أسس النظام الداخلية والخارجية والتي أعاد المؤتمر القطري العاشر إنتاجها وتكريسها.
اجتثاث الفكرة القومية
المحامي جوزيف سويد عضو البرلمان السوري يقول:
السؤال الذي يطرح بالمقابل ما إمكانية نجاح الضغوط والتهديدات الخارجية، وكيف؟
هذه التهديدات تستهدف سوريا بثوابتها القومية، وسوريا متمسكة بها وليس لديها استعداد للتراجع عنها، إنها مستعدة لكل حوار يمكن الوصول من خلاله إلى تفاهم ضمن إطار التمسك بالثوابت. الضاغطون يتذرعون بذرائع لكي تقبل سوريا مساومتهم على الثوابت، ولكن هذا غير وارد. حملات اليوم وضغوطها لا تختلف عن حملات الأمس وضغوطها، وإن كانت الأشد خطراً منذ اغتصاب فلسطين، إضافة إلى ما ضاع واقتطع من أجزاء وطننا الواحد الدامي، وذلك أنها تستهدف منذ غزو العراق والتآمر المحموم للفصل بين الشام ولبنان، اجتثاث الفكرة القومية وعياً ونهجاً وثقافةً ونضالاً من عالمنا العربي على طريق تفتيتنا طوائف وأعراقاً في دويلات الفيدراليات الطائفية والعرقية التي يريدون سوقنا إليها.
إذاً، المجتمع مستهدف بوجوده وليس القيادة في سوريا فحسب، وإن استهداف القيادة يأتي من موقفها المقاوم الممانع الذي يتماهى مع نبض الشارع وموقفه المقاوم الممانع، وسوريا تتفرد بهذه الخاصة، خاصةً انعدام الفجوة بين الحاكم والشعب. من هنا القول إنه مقابل هذه التهديدات فإننا نمتلك عناصر قوة، فسوريا تعتمد على بنيتها الداخلية المتماسكة، وشعبنا على مر التاريخ يحمل الهم القومي وقد شارك في ثورات فلسطين والعراق ولبنان والجزائر ومصر وهو دوماً مستعد لدفع أعباء وتكاليف اتجاهه القومي. هذا التماسك الداخلي يشتد أكثر فأكثر، ومحاولة زعزعته لن يكتب لها النجاح، هذا التماسك الذي ازداد منعة وتحصيناً في جملة الخطوات البناءة المتأنية من الاضطلاع الحقيقي بالمستوى المعيشي للمواطن وبشكل ممنهج إلى قانون الأحزاب الذي قارب على الصدور، إلى إعادة النظر بقانون الطوارئ، إلى إطلاق المساجين السياسيين وغير ذلك. لذلك فإن مقومات وحدة توجهنا ووحدة تراصنا لمواجهة الأخطار وتنكب خيار المقاومة متوفرة بامتياز. أما على صعيد السياسة الخارجية فإن سوريا لم تتبع سياسة حرق الجسور بل بناء الجسور، سوريا تحترم قرارات الشرعية الدولية، سوريا تحترم مبادئ الشرعية الدولية ولكن هذه المبادئ ذاتها تنص على وجوب احترام سيادة الدول، وفي هذا السياق نضرب مثلاً هو لجنة التحقيق الدولية، ففضلاً عن جنوحها عن الحيادية والمهنية وفضلاً عن انحيازها السياسي الفاضح، هل التزمت اللجنة نفسها بقواعد القانون الدولي؟ لقد ضربت هذه اللجنة تلك القواعد عرض الحائط وسعت للمساس بالشأن السيادي. من حق كل دولة ومن واجبها وفق الشرعية الدولية رعاية حقوق مواطنيها القانونية، لقد شكلت سوريا لجنة قضائية انسجاماً مع احترامها للشرعية الدولية، فإذا كانت لدى اللجنة الدولية معطيات ما تصلح أساساً للتحقيق فلتقدمها إلى اللجنة السورية مع توصية التحقيق بها، على الأقل كما سارت عليه أمور التحقيق في لبنان، فيتم التحقيق بها وفق الأصول والقانون. الشرعية الدولية التي يتحدثون عنها يفترض ألا تعني انتهاك الحق بل صونه، ولكن إذا أضحى ثابتاً أن أمريكا وrdquo;إسرائيلrdquo; تتوسلان الوسائل الدولية على غير مضمونها لوضع الخريطة الجديدة للمنطقة موضع التنفيذ. من هنا فإن سوريا تضع المجتمع الدولي والعالم العربي أمام مسؤولياته بحسبان أن المشروع الأمريكي الصهيوني سوف تكون له منعكساته على الساحتين الدولية والإقليمية.
سوريا قادرة
الدكتور فايز الصايغ مدير عام مؤسسة الوحدة ورئيس تحرير صحيفة ldquo;الثورةrdquo; السورية أجاب:
لا شك أن الضغوط الحالية التي تتعرض لها سوريا تختلف في بنيتها وتوصيفها عما عرفته في الماضي، ولكنها في الوقت ذاته تشير إلى أن الضغوط وإن كانت مختلفة فهي صيغ من صيغ التعايش السياسي التي اعتادت عليها سوريا في العقود الماضية. وهذا ليس للتقليل من خطورة ما يجري أو للتقليل من شأن الفرضيات الموازية حيناً والسابقة في أغلب الأحيان لتلك الضغوط، ولكنها لفهم ضروري لآليات العمل السياسي في مثل هذه الظروف، والتفريق بين الواقعي وبين حالة الإفراط في تقدير مراحل الشد والجذب بحكم المتغيرات التي شهدها العالم والتي سيقت في كثير من الأحيان لاتهام سوريا بعدم الأخذ بها أو عدم إدراكها كما اعتاد البعض ممن استسهلوا موجة الاتهام في هذه المرحلة.
لذلك ليس لدينا أدنى شك بقدرة سوريا على مواجهة تلك الضغوط، وإن كانت تتصف تلك الضغوط بكثير من الغوغائية وكثير من اللامنطقية، وتحتمل الكثير من المتاعب والمصاعب بحكم المتغيرات في المناخ الدولي وفي مشهد العلاقات الدولية والتي تضفي أبعادها الخاصة والمؤلمة على النظام الدولي القائم وتجعل من مخاوف البعض مشروعة، ولكنها لا تبرر إفراط البعض في نوازعه الذاتية وهرولته وانزلاقه، وتهافت البعض الآخر على الأخذ بأمور من ظواهرها لا من مضمونها وعمقها السياسي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بذلك. وهذا يطرح على أرض الواقع معادلة بسيطة سبق أن طرحت مراراً وهي أبعاد الاستهداف ودوره وغاياته الأساسية والفرق بين ما يطرح كشعار للاستهداف وبين ما هو حقيقة فعلية، وهل الذرائع المطروحة تشكل نهاية المطاف؟
عند الإجابة عن هذا السؤال نحصل على الإجابة المطلوبة حول إمكانية سوريا في مواجهة الضغوط والتهديدات الخارجية، وسوريا التي تدرك الإجابة عن السؤال تجيد جيداً قراءة الإجابة الثانية وتعي جيداً متطلباتها وعواملها. أما في ما يخص الأسس والمقومات فالحديث عنها يطول، وهي عرضة لاختلاف في التأويل وفي الفهم على حد سواء، ويشكل في جوهره نقطة جدل بحكم الاختلاف في التقويم.
على كل وفي مطلق الأحوال عوامل الصمود والاستمرارية في الموقف السوري تستمد من خيارات العمل الوطني ذاته، وهي خيارات محسومة بالمطلق لجهة الحفاظ على عوامل الوحدة الوطنية وتأمين ظروف الارتقاء بها، استناداً إلى عوامل اقتصادية واجتماعية توفر المناخ الصحي الملائم لها وتفرض في الوقت ذاته جملة من الإجراءات التي تمت في هذا الإطار، فسوريا تمتلك احتياطياً نقدياً مشجعاً ومهماً في مثل هذه الظروف، ومديونيتها في حدها الأدنى، بل هي الأدنى في المنطقة والعالم النامي تقريباً، والأمن الغذائي الذي عملت عليه على مدى العقود الماضية يشكل عامل أمان لا يستهان به، وهناك اكتفاء ذاتي في المحاصيل الاستراتيجية الأساسية، إضافة إلى سلسلة من الإجراءات الاقتصادية الموازية التي تتم على نطاق واسع لتجاوز بعض العثرات الحاصلة هنا أو هناك وسد بعض الثغرات التي برزت في مراحل مختلفة، إضافة إلى سلسلة من الإجراءات الاحترازية المواكبة على أكثر من صعيد. وهذا يتقاطع مع جملة من المبادرات على مستوى الحوار الوطني، بما فيها إطلاق قانون الأحزاب للنقاش، والعفو عن السجناء السياسيين في إطار خطة طموحة وشفافة لتعميق مساحة الحوار الوطني وفق أوسع قاعدة شعبية متاحة. أما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد شهدنا في الفترة الأخيرة سلسلة من الخطوات العملية لتنشيط مراكز عمل هذه السياسة والانتقال التدريجي من العمل الدبلوماسي الصامت إلى حيز العمل المدروس والمعلن للكثير من الخطوات وإرفاقها بالكثير من أدوات الفاعلية والنشاط وتشكيل محاور عمل على المستوى الإقليمي والدولي للتفاعل مع التطورات المتعلقة بأحداث المنطقة، انطلاقاً من حقيقة الدور الإقليمي الذي تؤديه سوريا رغم محاولات التطويق لهذا الدور، وسيكون محوراً لنشاط متعدد الأوجه. وهذا يتم بالتكامل مع التحرك الإعلامي النشط والفعال على أكثر من صعيد، خصوصاً أن الإعلام شهد تركيزاً واهتماماً سياسياً من أعلى المستويات لتوسيع مساحة وظيفته ودوره بالتوازي مع الحراك السياسي الداخلي والخارجي، وهو ما يشير إلى الاتجاهات التي تحكم مساره في المرحلة المقبلة بحيث يكون هناك تقاطع واضح في الأدوار والمهام على كل المستويات وكافة الصعد.
عجز النظام عن مواجهة المأزق
أما الكاتب والمحلل السياسي ميشيل كيلو رئيس مركز ldquo;حرياتrdquo; للدفاع عن حرية الصحافة والصحافيين فقال:
- ليس لدى النظام السوري إمكانات كبيرة أو حقيقية في مواجهة القوى الدولية، التي طالبت بدوره الإقليمي وشرعت تفككه في لبنان وتطالب بتغييره في العراق وتقلصه في فلسطين، بمعونة دول عربية عديدة وقرارات دولية متنوعة، صدرت في الأشهر الأخيرة، بعد خروجه من لبنان، حيث كان قد رتب أموره على بقاء دائم فيه، واستشهاد الرئيس رفيق الحريري، الذي أوقعه في ورطة لا يعرف كيف يخرج منها، تشبه رمالا متحركة يغرق فيها أكثر فأكثر، أو تلك المستنقعات التي تبتلع من يغامر بوضع قدمه فيها. والمشكلة أن كل يوم يمر يزيد من عجز النظام عن مواجهة المأزق، ويزيد من عزلته حتى عن البلدان العربية، التي كان قد وعدها بتسليم المشتبه فيهم من ضباط مخابراته، لكنه لم ينفذ وعوده، رغم أنها أخبرته بلغة لا تحتمل اللبس أن قدرتها على مساعدته ترتبط باستعداده للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية، التي ينص قرار مجلس الأمن الدولي 1636 على أن يكون تعاون سوريا معها غير مشروط، الأمر الذي يبدو من خطاب الرئيس الأسد أن النظام يرفضه، إما لأنه يعتبر التحقيق في مقتل الحريري منتهيا، أو لأنه يرى فيه تهديدا لاستقرار وأمن سوريا، في حين لا يقنع موقفه هذا كثيرين في العالم، وتقترب الفترة المحددة لتقديم تقرير نهائي إلى مجلس الأمن، تشير قرائن مختلفة إلى أنه سيتهم بشار الأسد بالوقوف وراء اغتيال الحريري. ليست لدى النظام بدائل خارجية كثيرة، فالخارج يعمل على حصاره وعزله واحتوائه بشروطه، كما يعمل على دفعه إلى سياسات مجابهة هو فيها الطرف الضعيف، الذي يراد له أن يرتكب أخطاء يدفع ثمنا فادحا لها، تستند إلى اعتقاد مغلوط يزين له أنه في وضع هجومي، وأن خصومه الدوليين في حال دفاعية لا يقوون معها حتى على التحرش به. وليست لديه بدائل داخلية أيضا، إن هو اكتفى بالدفاع عن نفسه بقوى النظام وحده، التي ربما كانت مؤهلة لاحتواء وقمع الداخل، لكنها لا تملك القدرات أو الوسائل اللازمة لصد قوى خارجية متفوقة بدرجة ساحقة عليه. كما لا تستطع مظاهرات طلبة وتلامذة محرومين من حقوقهم السياسية ومحظور عليهم التظاهر بغير أوامر ومواكبة رسمية، صد خطر خارجي ماثل، يطبق على بلادهم من جميع الجهات، لكن شعورهم الوطني العفوي الصادق لا يكفي لردعه. وهكذا، لا يبقى من بديل غير المقاومة بقوى الدولة والمجتمع والسلطة متحدة ومتكاملة، وهذا يتطلب مصالحة وطنية حقيقية تجمع أطياف العمل السياسي المختلفة، الراغبة في حماية البلاد، حول برنامج عمل وطني متوافق عليه، يمكن أن يحدد في ضوئه ما على السلطة والمعارضة عمله من أجل توحيد مواقفهما، والتحول إلى جبهة واحدة متلاحمة في مواجهة العدو، بعد اعتراف السلطة بشرعية المعارضة، واعتراف المعارضة بأولوية التناقض مع العدو، وبتحول التناقض الداخلي إلى تحالف وطني جامع، يضمن وحده تلاقي القوى جميعها على أرضية مشتركة، وإعداد البلاد لصد الأخطار والاعتداءات، وحماية وتعزيز وحدة الشعب والوطن، ضد أي تحد، مهما كان طابعه. هذا هو، في اعتقادي الخيار الممكن والمجدي. أما خيارات السلطة الراهنة، فهي لا تضيع قدرات البلد وحسب، بل وتهددها بكارثة لا قبل لها بمواجهتها.
المصالحة الوطنية لبناء الحركة الشعبية
لمى قنوت عضو المكتب السياسي لحركة الاشتراكيين العرب ووزيرة سابقة قالت:
مع تزايد خطر العدوان الأمريكي الذي تطرق أياديه سوريا بقوة وعنف بدءاً من قانون محاسبة سوريا إلى قانون معاقبة سوريا إلى القرار 1559 مروراً بتقرير ميليس وتقرير لارسن وقرار مجلس الأمن الأخير 1636 وبخاصة استصداره بناء على البند السابع وهي الخطوة التصعيدية الأخطر لإطباق الطوق على سوريا، وتحول لبنان من بلد تربطه بسوريا علاقات حميمة إلى بلد تحول إلى مركز لنشاط دولي معادٍ، ووجود الجيش الأمريكي على الحدود الشمالية الشرقية لسوريا وإمكانية الحشد العسكري على الحدود السورية الأردنية وقتما تصدر الأوامر الأمريكية، وفي ظل العجز العربي المطلق عن مواجهة الانهيار المتسارع والذي خرج عن كل الحدود المألوفة وبقي دوره ضمن حدود النصح فقط.
ولا يغيب عن بالنا أن التحقيق في اغتيال الحريري تحول إلى قميص عثمان، واستغل تماماً لاستكمال مشروع الفوضى الخلاقة وإعادة ترتيب المنطقة وفق الهوى الأمريكي الصهيوني لخلق شرق أوسط جديد. أمام هذا المشهد الدولي والعربي القاتم نرى أن الوضع الداخلي المأزوم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أسس لمدرسة كاملة متكاملة وجيش جرار من المنتفعين والمصفقين وقارعي الطبول وفاسدين ومفسدين طوروا أساليبهم وأدواتهم بغياب المحاسبة والمكافحة ولاسيما لرموزهم الكبيرة وبالتالي كان تردي القيم والأخلاق نتيجة طبيعية جداً رافقها اغتيال للعقل والتعاطي مع جماهير الشعب وكأنها قطعان من الماشية مهمتها البحث عن الطعام والدواء فقط وهذه الأغلبية وجدت نفسها صامتة وفي عزلة تبحث عن الأمان من القبضة الأمنية.
على مر التاريخ لم يكن للشعب السوري العريق خيار غير خيار المقاومة بكل أشكالها، حفاظاً على استقلال الوطن وسيادته ووحدته الوطنية وحرية قراره. إن الأغلبية الساحقة مؤمنة بعدم الاستقواء بالخارج ورفض ونبذ كل من تسوّل له نفسه بذلك وهي حقاً جريمة في حق الوطن، ولا يزال النموذج الأمريكي يبدع في تقديم الأسلوب الوحشي في فلسطين والعراق.
لكن المقاومة والمواجهة بحاجة إلى أدوات وشعار للمرحلة المقبلة ولا خيار يبدو غير المراهنة على الشعب وتحصين الوطن والانفتاح على الداخل وتحويل هذه الأزمة إلى نقطة قطيعة مع الماضي والتقدم نحو إقامة نظام جديد قادر على بناء الإجماع الوطني.
إن سوريا لم تحصد خيراً من تهميش الأحزاب وتقسيمها والإجهاز على المجتمع المدني وتحويل الشعب إلى قطيع من فرض العبودية السياسية عليه.
إن المصالحة الوطنية مهمة جداً لإعادة بناء الحركة الشعبية على ألا يتم إقصاء أي طرف، وعلى كافة القوى والشخصيات الوطنية العمل والسعي لانتزاع الحريات العامة كما أقرها الدستور وبناء دولة المواطنة والقانون وترسيخها كواقع وثقافة عبر نضال حثيث، والسعي لانتخابات برلمانية يكون صندوق الاقتراع هو الحكم بعيداً عن ترشيحات أجهزة الأمن وتدخلها وبعيداً عن المال السياسي، ليعيد السيادة إلى البرلمان وليؤسس بداية جدية لحياة سياسية صحية وخطوة أولى في طريق طويل. إن ترتيب البيت الداخلي يحول دون السماح للخارج بأن يستخدم الداخل في الإجهاز على الوطن وتصبح إمكانية الصمود ممكنة في هذه المعركة المصيرية. أما على صعيد السياسة الخارجية، فإن القرار 1636 حصل بالإجماع في مجلس الأمن وعلينا سد الذرائع للانقضاض على سوريا من خلال قضية التحقيق في اغتيال الحريري والمساعدة الكاملة لتقديم براءتها منها وتقديم المتورطين للعدالة في حال ثبت تورط أحد في ذلك . في السياسة لا توجد صداقة دائمة وعداوة دائمة وإنما مصلحة دائمة ولذلك لا بد من نسيان مرحلة العلاقة الأمنية السورية في لبنان وطي صفحة الماضي ووقف الاتهامات المتبادلة بين الطرفين وإقامة أنجح التحالفات والاتفاقيات والعلاقات السياسية والاقتصادية التي تخدم مصالح الشعبين فقط، لأن المصير مشترك وما يصيب سوريا من أذى يصيب لبنان والعكس صحيح. ردم الهوة التي حصلت مؤخراً بين العلاقات السعودية - السورية، والعمل على إحياء أوسع تضامن عربي مع سوريا إذ لا بديل للعرب عن تضامنهم ولا قوة لهم إلا في وحدة موقفهم مع إطلاق حملة سياسية ودبلوماسية كثيفة وواسعة مع الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وبريطانيا. في النهاية إن العدوان على الأبواب والوقت شارف على الانتهاء وناقوس الخطر يدق.. نعم الوطن في خطر ليس على سوريا فقط بل على الأمة العربية، لأن الحلم الأمريكي هو كما قال ريتشارد بيرل: إن زحفت الدبابات إلى دمشق في تلك اللحظة يسقط التاريخ في الشرق الأوسط.. وجدلياً تسقط الجغرافيا، طبعاً لن تزحف الدبابات بالمعنى الحرفي للكلمة لأن أمريكا غارقة في وحل العراق ولكن المطلوب تفتيت المنطقة وفق أقاليم وأقطار ومدن وإثنيات وفي النهاية التسليم لrdquo;إسرائيلrdquo; كقوة تحكم قبضتها على الجميع.. فهل أعددنا العدة لذلك؟
التعليقات