الأحد:25. 12. 2005

فنجان قهوة
أبو خلدون


مرت ذكرى وفاة أم كلثوم علينا مرور الكرام كأن هذه العبقرية الغنائية لم تكن بيننا، فالوسط الفني عندنا مشغول بالصواريخ العابرة للقارات التي أطلقتها محطاتنا الفضائية في السنوات الأخيرة، ولا مجال لأم كلثوم بين هؤلاء، أما في اليونان التي أنجبت كوزانتزاكيس وزوربا، فقد نشر المؤرخ والناقد المعروف مانولي طاسولاس مقالا تحدث فيه عن تجربة تعرض لها عام 1946 قال فيه: ldquo;كنت أمضي السهرة مع صديق، وبمحض المصادفة، توقف مؤشر الراديو على محطة عربية تبث أغنية لأم كلثوم. لم أكن أجيد اللغة العربية، لكنني كنت أجيد الاستماع، وأمتلك أذنا موسيقية تستطيع أن تميز بين الغث والسمين. وفجأة، وجدت أذني تتعلق بذبذبات هذا الصوت الرخيم، وتتابع ارتفاعاته وانخفاضاته، وتعيش مع تموجاته وأنغامه الساحرة، ومنذ ذلك الحين شعرت بأنني مشدود بخيط غريب إلى أم كلثوم، ومشغول بها عن كل ما سواهاrdquo;. ونشرت مجلة ldquo;هاعولام هاريهrdquo; في أوائل السبعينات تحقيقاً عن اليهود الشرقيين في الكيان قالت فيه: إن جمهورا من هؤلاء لم تعجبه الأغاني العبرية التي يقدمها المطرب على المسرح في أحد الملاهي، فأخذوا يصخبون ويثيرون الشغب، وأنزلوا المطرب عن المسرح وصعد أحدهم مكانه، وبدأ يغني بإجادة تامة إحدى أغاني أم كلثوم. وقالت المجلة إن اليهود الشرقيين يختفون تماما من الشوارع والملاهي والأماكن العامة ويتجمعون في منازلهم يستمعون إلى حفلة أم كلثوم، وفي اليوم التالي يقتصر الحديث بينهم على الأغنية التي قدمتها ldquo;الستrdquo; في الليلة السابقة.

والحديث عن أم كلثوم يثير الشجن، ويبدو أن أشجاننا أنستنا تلك الفترات الرائعة التي كنا نمضيها مع أغانيها، وقد تساءلت وأنا أتابع السهرة التي قدمتها الفضائية اللبنانية لفيروز يوم الخميس الماضي: لماذا لا تخصص قنواتنا الفضائية سهرة شهرية على الأقل لمطربينا الكبار مثل عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وفيروز لكي ننظف آذاننا من النفايات الصوتية التي علقت بها من أغاني الفيديو كليب، ولكي يدرك مطربو هذه الأيام أن الفنان يمكن أن ينجح جماهيرياً من دون الاستعانة براقصات يرتدين الميني جيب ويكشفن أكثر مما يسترن.

وأغاني مطربي أيام زمان أثرت في فنون الشعوب الأخرى في العديد من دول العالم، فموسيقا الرحابنة تجد أصداءها في العديد من الأغاني الإيرانية، والعديد من أغاني فريد الأطرش جرى تقديمها بتوزيع حديث في أوروبا، ومن أشهر الأغاني التي قدمتها داليدا أغنية مقدمتها كلمات عربية ولحن عربي بعنوان ldquo;حلوة يا بلديrdquo;، وقد أصدر مانولي طاسولاس في منتصف التسعينات كتابا عن أم كلثوم، بمناسبة الذكرى العشرين لوفاتها، قال إنه حصيلة انشغال ومتابعة زادت على نصف قرن وذكر فيه أن الفن اليوناني تأثر إلى حد كبير بأغنيات أم كلثوم، ويظهر هذا التأثر في الأغنيات الشعبية المعروفة باسم اللايكو التي يعتبرها اليونانيون تراثا فنيا أصيلاً يحفظونه عن ظهر قلب. ويتابع الكتاب قصة حياة كوكب الشرق ومشوارها الفني، ويقول إنها المطربة الوحيدة في العالم التي خرج في تشييع جنازتها عام 1975 ما يزيد على مليون شخص من عشاق فنها.

والكتاب عبارة عن ldquo;وثيقة تكريمrdquo; لأم كلثوم لم يصدر مثله في اللغة العربية، كما أنه لم يترجم إليها، والسبب هو: أن العرب هم الشعب الوحيد في العالم الذي يملك مثلا شعبيا يقول: ldquo;مغنية الحي لا تطربrdquo;. وإذا كانت هنالك في تراث الشعوب الأخرى أمثال تحمل معنى مشابهاً فإنها لا تتحدث عن الفن، وإنما عن أشياء أخرى.


[email protected]