الخميس:29. 12. 2005

الكسندر كوكبيرن


تفوح رائحة ذعر نتنة في واشنطن فوق الكابيتول هيل حيث يجثم الكونجرس، ذعر نشر أجنحته العفنة وكأنه ضباب شتوي عصفت به الريح، وراحت تدفعه نحو طريق بنسلفانيا، ينبثق هذا الهلع من الهاجس الأكبر الذي يستبد بكل سياسي في عاصمة البلاد، ألا وهو هاجس ldquo;النجاةrdquo;، فهل الى مخرج من سبيل؟

والقوم الذين أضناهم هذا الهاجس حتى كدهم العرق هم الجمهوريون، ومنبع ذعرهم انما هو الرسالة المهلكة التي تبثها كل جولة انتخابية وتقذفها في وجوه القوم: فحرب بوش وغزوه العراق سوف يجلب الدمار والبوار للحزب الجمهوري في انتخابات منتصف العام المقبلة.

ولنأخذ مثلاً عينة استقرائية لندلك على ما يقول الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة ldquo;سيرفي يو.إس.ايهrdquo;: إذا لم يتخط مستوى الرضا عن أداء بوش عتبة 50% إلا في سبع ولايات فقط. واشتملت هذه الولايات السبع على تلك الشحيحة بالسكان وهي أوتا وايداهو وومينغ ونبراسكا واكلاهوما والاباما والمسيسيبي. وتدنت شعبيته في اثنتي عشرة ولاية تضم كاليفورنيا ونيويورك وايلينوي، وبنسلفانيا ومتشيغان عن مستوى 35%.

ولا بد للمرء هاهنا ان يعود بذاكرته القهقرى الى حقبة أوائل السبعينات عندما ألقت المقادير بنيكسون الذي لطخته الفضيحة فألقى نفسه على شفير الاستقالة وليكتشف ان شعبيته تدنت الى مستويات أقل حتى من شعبية بوش. وشأنه شأن بوش ما لبث نيكسون ان حصد النصر في انتخابات استئناف ولاية ثانية خاضها عام 1972. وبعد أقل من سنتين سلم عهدة البيت الأبيض الى نائب الرئيس فورد وحمل عصا الترحال ليحتجب في المنفى.

لكن لا أحد يتوقع استقالة بوش أو إقالته عن طريق خلع الكونجرس له (رغم ان مستقبل نائب الرئيس ديك تشيني يبدو أكثر هشاشة وتضعضعاً). وأمامه في ولايته الثانية أكثر من ثلاث سنوات يمضيها في المنصب.

إلا انه وحتى الآن، ودعنا نقتبس هاهنا عبارة تعود جذورها الى عهد نيكسون، فثمة سوس ينخر رئاسته بل هو سرطان مهلك يلتهمها، وما هذا السرطان، إلا الحرب في العراق، إذ ان 60% من الشعب الأمريكي يناوئ الحرب الآن، ويعتقد نحو 40% من هذا الشعب ان بوش قد كذب عليهم كي يدعموه ويدعموا هذه الحرب.

ومن هنا تفجر الهلع، فرغم ان المقاعد في مجلس النواب قد بولغ جداً في تجزئتها لدرجة ان أقل من 50% من 435 منطقة يخشى ان يحتلها أناس آخرون غير من يشغلونها حالياً، فإن الجمهوريين استولى عليهم القلق بشأن حفنة من المقاعد التي يتخوفون من عدم قدرتها على الصمود في وجه إعصار سياسي قوته خمس درجات مهما كانت الطريقة التي قسمت بها هذه المقاعد.

وما تنبئهم به الاستطلاعات الأخيرة انما هي رسالة بسيطة: فإذا لم تسحب الولايات المتحدة أعداداً كبيرة من قواتها من العراق بحلول خريف العام المقبل فثمة خطر داهم ينذر بأن عاصفة عاتية قوتها خمس درجات سوف تكتسح الجمهوريين وتزلزل أقدامهم وتزيحهم من المشهد.

وقد ظلت فكرة الانسحاب الفوري خامدة القوى خائرة العزم لا يتحمس لها أحد في الكابيتول هيل الى ان القى النائب الديمقراطي جون مرثا بخطابه في الكونجرس يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني. واكتسبت الإدانة الشرسة التي شجب بها مرثا الحرب بضراوة قوتها واستمدت زخمها من رقيب تدريب سابق قديم في سلاح المارينز الأمريكي صار صقراً مؤثراً بالغ النفوذ في الكونجرس لحقبة تزيد على جيل. ويتربع هذا المتنفذ في الصدارة ويشارك في القيادة بصفته عضواً كبيراً في تلك اللجنة المنوط بها تحديد مخصصات التمويل العسكري وتوزيع الحصص على مختلف القطاعات، ويجوب لهذا الغرض وبحكم طبيعة عمله القواعد العسكرية وقد زار العراق مرات عديدة وهو لا يمت الى النخبة الليبرالية بصلة بل يتحدر من أصول كادحة عمالية في حي من أحياء ولاية بنسلفانيا حيث خرج عدة مرات ينافح عن عمال المناجم على مر السنين.

وما حدث في أعقاب هذا الخطاب فيه عبرة وهو مفعم بالدلالات إذ انكفأ الديمقراطيون على أنفسهم ونأوا بها عن مرثا. ومن طائرة بوش الرئاسية التي كانت تطوف بآسيا، جاء ذاك التعليق الساخر الذي يذهب الى ان مرثا كان ldquo;يتبنى سياسات مايكل مور والجناح الليبرالي المتطرف للحزب الديمقراطيrdquo;.

وما ان حلت عطلة نهاية الاسبوع حتى راح بوش يتحدث عن مرثا باحترام، ولم يلبث تشيني يوم الاثنين التالي ان قال، وأسنانه تصطك، انه برغم اختلافه في الرأي مع مرثا ldquo;فإن مرثا رجل طيب وهو مواطن صالح وجندي بحرية له سجل وطني مشرف وله موقف واضح لا لبس فيه في نقاش مشروع تماماًrdquo;.

وبعد يوم واحد تحدثت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس الى محطة ldquo;فوكس نيوزrdquo; للأنباء فقالت: ldquo;لا أعتقد ان ثمة ضرورة لبقاء القوات الأمريكية في العراق بأعداد كبيرة كما هو عليه الحال الآن، ولا داعي إطلاقاً لاستمرارها لفترة أطول بكثير هناك لأن العراقيين تتنامى قواتهمrdquo;. وبعدها بأسبوع كان بوش يحضّر بخطابه الذي يشدد بشكل كبير على الانسحابات الأمريكية المواكبة لازدياد أعداد القوات العراقية وزيادة تحملها للأعباء.

فهل هناك حقاً كتائب عراقية دربها الأمريكان فأصبحت جاهزة للنهوض بالمهام؟ ليس ثمة شيء من هذا القبيل على وجه التحقيق ان كان لنا ان نصدق التقارير الدقيقة التي ترد من العراق، اللهم إلا إذا كان هؤلاء الجند الذين يتحدثون عنهم عجائز في التسعين من عمرهم يشهرون رماحهم وعلى عاتقهم جعبة السهام وقد امتشقوا القوس والحسام وما تزال قيادة بوش العليا تستنهض هممهم وتحاول جاهدة رفع روحهم المعنوية ليصبحوا جاهزين مدربين للقيام بالمهمة العظيمة.

وبعد خطاب مرثا بعشرة أيام تواثب المعلقون في أحاديث يوم الأحد التلفزيونية وهرولوا ليستقلوا متن العربة التي ترفع شعار ldquo;اعيدوا أبناءنا الى الوطنrdquo; وتزاحم الجميع لينضموا الى جوقة الأصوات المنادية بعودة القوات الى الولايات المتحدة، وأما تلك الأصوات التي دأبت على الزعيق منادية بأن ldquo;تتشبث أمريكا بهذا الدرب وتواصل الحربrdquo; في العراق فأصبحت قليلة لا يكاد صوتها يبين.

* كاتب صحافي ومحلل سياسي.