يتسع المجال الفكري في البلدان العربية ليشمل عدة تيارات تنخرط في مرجعيات مختلفة، منها الاسلامي والقومي والليبرالي (قديمه وجديده)، وما تبقى من الماركسي، والوجودي... وسوى ذلك. ويتلون كل واحد منها بألوان متعددة، تتنوع تبعا لطرائق المفكرين في بيان الآراء ومعالجة القضايا والاشكاليات، في ضوء المفاهيم المرجعية لهذا او ذاك التيار، وبالتالي من الصعب جمعها تحت مسمى "الفكر العربي"، الا بالمعنى الاجرائي، وفي حيز فيه الكثير من التعميم والتبسيط.
وقد اتبع منتجو الفكر في البلدان العربية، منذ ما يزيد على نصف قرن مناهج لا تبتعد كثيرا عن تلك التي اتبعها مفكرو عصر النهضة، اي العصر الذي سمي كذلك بحماس كبير، وخصوصا في تداول الآراء والاشكاليات ذاتها، رغم انها اصطبغت لديهم بصبغة جديدة، بعد ان استخدم المفكر والمثقف العربي المعاصر ادوات اخرى للقراءة، اعاد من خلالها قراءة النصوص السابقة، بنحو مختلف، فاستأنفوا بناء الآراء والاشكاليات وفقا لما اتاحته لهم ادواتهم الجديدة.

وأفرزت التفاعلات التي كان يمور فيها الواقع في البلدان العربية العديد من الاتجاهات والتيارات الفكرية، ومن واقع النشأة الذي ميز ظهور الدولة العربية، في نسختها المستبدة والشمولية، برز مجال التصارع والتصادم المباشر، ما بين السلطة وأجهزتها القمعية وبين القوى الاجتماعية المختلفة، بعد ان حددت السلطات العربية مسافة الاقتراب من مساحة العمل السياسي، وصادرت الحق في الاختلاف والتعدد، كما صادرت الحرية والديموقراطية، والحق في المواطنة وحقوق الانسان، واشبعت المواطن ذلا وقهرا على يد اجهزتها الاستخباراتية.
وشكل نقص الاستجابة الفاعلة مع المفردات التي تبرزها طبيعة العلاقات السائدة في المجتمع الداء العضال الذي يعاني منه الفكر العربي بعمومه، والذي تتراوح تجلياته ما بين الافراط بالحماس والقفز فوق الواقع، والادعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة والمطلقة، وكأنها ملك مصون لهذا التيار، دون سواه من التيارات الاخرى، كما شكلت القطيعة مع الواقع السبيل الى فهم المجال العربي، الذي عانى وما زال من التقاطع والتنافر والتنابذ، نظرا لغياب الممارسة الديموقراطية، بل وغياب تقبّل الآخر المختلف، فكريا وعقيديا. ومن هذا التصلب الذي يصل الى حد التورم في بعض الاحيان، تبرز مفاعيل ازمة بنيوية يعاني منها الفكر العربي، تحولت الى مكامن للصدام الذي يصل الى درجة حادة من الفجاجة والامتهان المتبادل. انه البهتان الذي اصاب العديد من منتجي الفكر، والخواء الذي يعاني منه العديد من المثقفين العرب الموزعين ما بين التعالي الفكري وبين الواقع الاجتماعي البعيدين عنه، او القافزين عليه.
الرومانسي

هكذا، لم ير الفكر القومي، الذي عبر عنه منظرو القومية العربية، من الواقع العربي الا تاريخه الرومانسي، فراح يطرح المشاريع الوحدوية في واقع يتجه الى المزيد من القطرية والابتعاد عن اي تنسيق عربي، ثم بات يتقاسم الحديث مع التيارات الاسلامية عن حضارة عربية رفعت راية الاسلام ما بين السند وبواتيه الفرنسية، ويطالب التاريخ ببعث مجدها الآفل من تحت الرماد. ونشأت دعوات ورؤى تخلط ما بين الدين "التراث" وبين القومية "الحداثة" في تمازج انقلابي، وتوفيق ولى زمانه، في حين ان الشعوب العربية، جماعات وافرادا، والمهمشة في هذا الخطاب الفكري، ما زالت تعاني من الجهل والتخلف وتبحث عن سبل حياة افضل.
وأهمل الفكر العربي الفرد، وراح يتمسك بوطن تجريدي، يموت المواطنون لأجله من دون ان يجنوا في حياتهم شيئا غير المنفى والاغتراب والمرارة وشظف العيش والشعور بالخذلان. مع أن أي أرض لن يكون لها أي معنى من دون المواطن ـ الفرد.
لقد عرف الخطاب العربي اتصالات وانزياحات وانفصالات مختلفة ومتنوعة تاريخياً، حتى صارت حاله، اليوم، أشبه بحال تائه لا يكل عن التخبط في متاهات طرق ولا يعرف الى أين ستنتهي به، أو حال غريق لا سبيل له سوى التمسك بأي حبل ينقذه من الغرق أو الموت، لذلك يبحث عن متحقق له في ظل أقلمات متغايرة، ترجعه تارة الى سماء مفاهيم حالمة، كي يحقق انشيالاً ما أو أرضنة، وتارة تفلت أقلماته ليسقط في ماضوية تثقل كاهله وتعيده الى زمن غابر ولى، أو في ما بعد حداثية تجعله يقفز الى الأمام قفزة لا يعرف الى أين ستأخذه.
ثنائيات

وخلال مسيرته، منذ نهضتنا التي قامت ولم تقم لها قائمة، كان المنتج الفكري العربي مشدوداً الى أحد حدي ثنائيات ميتافيزيقية، لا تقرّ بواقع الحال، كونها لا تقرأه كما هو، بلا رتوش أو تهويمات، وتقوم على وهم الفصل والإحالة والإرجاع، فتحلّق بصاحبها تحليقاً متعالياً، يبعده عن واقعه الذي يتوهم بأنه الوحيد القادر على التعبير عن حقيقته، بل وحقيقة الأشياء جميعاً، فتتناثر مفردات الخطاب بين الذات والموضوع، بين الأنا والغير، الديموقراطية والشورى، العلمانية والإسلامية.. ويكبر الوهم الميتافيزيقي، بعد أن تعمي سلطة الإيديولوجيا عين المفكر أو المثقف ليتوهم أن الواقع سماء صافية زرقاء، لا تشوبها الغيوم حتى وإن وجدت، وأن الحلول التي يقترحها ستنقذ عموم العرب وتوقظهم من سباتهم، فيصبحون على خير الماضي ورموزه، أو على خير العولمة وأطيافها، ويصبح الخطاب سحرانياً خالصاً أو قل ميتافيزيقياً خالصاً. وهذا ما يسم المنتج الفكري العربي المعاصر، بمختلف مذهبياته الحديثة، وخطاب مختلف دعاوى مجموعاته الحاملة: خطاب الإسلام السياسي وجماعاته، وخطاب الماركسية وتمظهراتها، وخطاب المجموعات القومية وسواها.
إن خطاب هذه المجموعات إيديولوجي وعقائدي بالدرجة الأولى، تتنازعه مقولات وأفكار لا زالت تراود أصحاب المشاريع الكبرى في حضورها الميتافيزيقي: الذات، الآخر، الهوية، القومية، العلمانية، الأصولية، الأمة، الدولة الوطنية، الحداثة، التغريب، الأصافة، المعاصرة... إلخ، وهو خطاب ذرائعي بالدرجة الثانية، يستخدم كل الوسائل المتاحة في صراعه الضيّق مع المجموعات الأخرى التي يعدّها مناوئة له وليست منافسة له أو مختلفة عنه.

لكن المؤسف حقاً، أن تتحول الأفكار الى أدوات للصراع المذهبي والحزبي، وأن يصبح كل ما هو فكري أداة طيّعة في خدمة الهدف الحزبي السياسي، وهو ما يمكن تلخيصه في أحد مآزق الخطاب العربي، حيث يتقدم السياسي على الفكري، بل وفي أحيان كثيرة يحتقر السياسي كل ما هو فكري وثقافي. لهذا نرى أن معظم المفكرين والمثقفين العرب إما كانوا بوقاً لأحزابهم السياسية، أو لفظتهم تلك الأحزاب عند أول محاولة لقول ما لا تقوله أحزابهم، أو أنهم ظلوا خارج الأحزاب وتظيماتها، ملعونين من قبلها ومكفّرين من قبل أجهزتها وأنصارها.
ونشهد منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين عمليات إعادة طرح الأسئلة والمفاهيم التي تصدى لها التفكير النهضوي، وهي بالأحرى عودة جديدة الى النهضة وأسئلتها ورموزها، وكأن أسئلة النهضة و"التنوير" العربي لا زالت هي نفسها رغم اختلاف البشر والأقاليم والتواريخ. حتى أن بعض المفكرين اكتشف، فجأة، بعد سبات طويل في ظل الأفكار الحالمة، التي كان يحملها، أن فشل المشروع الذي حمله مع جملة من رفاقه سببه القفز فوق أسئلة النهضة ورموزها، فما عليه إلا العودة الى الينابيع النهضوية بعد أن جرّب الخوض النضالي في ظل دعوات زال بريقها.
التنميط

هذا المنطلق في التفكير كان ينهض على التنميط والاختزال والقفز فوق التحليل والمساءلة والخلخلة، وهو تفكير محصور بمنطقة واحدة، يحذوها الإيجاب، وهذه ليس حال تفكير شخص بذاته، إنما نمط من التفكير ساد الفكر العربي المعاصر، فالداعية والمناضل عليه أن يبادر، وكيفما شاء، لكن يجب عليه قبل كل شيء أن يكون إيجابياً، حتى إن "البطل الإيجابي" كان عنوان وهدف كل منتج أو مهتم بالثقافة والفكر والسياسة.
هكذا، رفض نمط من التفكير العربي وخطابه السائد السلب وجميع مرادفاته، حتى تحول الإيجاب قوة، واستخدم ذريعة للسلطات العربية الحاكمة. ورافقت مفردة "الإيجاب" معظم تفاصيل التقييمات السياسية، حتى إن مفردة "الحياد" لم تكن مقبولة إن لم تلصق بها مفردة "الإيجابي". وبالتالي غاب فضاء السلب عن مساحات التفكير العربي، وفقد الخطاب العربي أي إمكان للتنقل والترحال بين الإيجاب والسلب، محتفياً بالشرط القطعي أو غير الإمكاني للمفهوم. كذلك غاب عن قاموس التفكير العربي وخطابات أصحاب المشاريع كل ما ينتسب الى السلب، فغاب حق الاختلاف والتعدد، وانتفت المعارضة والضدية والرفض والغياب والعدم والعشوائية... إلخ، وحضر الواحد، وحضرت كل معاني الإيجاب، أي حضرت الثنائيات الميتافيزيقية بمختلف تنويعاتها، وتم القبول الإيجابي للطرف الأول من كل ثنائية على حساب إلغاء الطرف الآخر.

وفي أيامنا هذه، ونحن نعيش في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق، فإن الحدث الذي عصف بمنطقتنا العربية لم ينتج الرد الفكري المطلوب، حيث تراوحت الردود ما بين حدين متعاكسين، يقف الأول على حماسة تحرير العراق من ديكتاتوره الذي أنجزته الدبابة الأميركية، فيما تنتاب الثاني حماسة المقاومة والجهاد، وفي الحالتين يسود خطاب بلاغي أخروي خلاصي. لكن حدثاً بهذه الضخامة يتطلب التفكير الهادئ والتحليل المدروس، والبحث عن الأسباب والمعوقات التي أدت إلى حالات الانهيار والتردي، وعن الأسباب التي أدت الى شيوع الاستبداد والفساد الداخلي، وجعلت العقل يتراجع أمام سطوة الرغبة التي أخضعته لمختلف التأويلات الجامدة للنصوص، الأمر الذي نتج عنه تجميد التطور الحضاري، وغلبة الرؤية الماضوية للعالم، والتي صارت تتحكم بأفق الرؤية الثقافية، وأرخت العنان لفكر التطرف، حتى صار الإرهاب عنواناً صريحاً لدعوات التغيير والمواجهة، داخلياً وخارجياً.