السياسة: الأحد: 10 . 07 . 2005

عندما تصبح مكونات الامة بحاجة الى بعضها بعضا لا يعود للأمة خيار الا ان تكون واحدة. ويبدو أن هذا ما حصل في السودان, حيث اقتنعت الامة السودانية, وبعد ربع قرن من الاقتتال والحروب, بان مكونا ثقافيا واحدا من مكوناتها بامكانه ان يخضع المكونات الاخرى, ويلغي ثقافتها.
بعد ربع قرن من سفك الدماء اتضح للسودانيين انهم واحد, وان تعدد الالوان في شرائحهم هو مدعاة غنى, وان السعي لجعل اللوحة السودانية مرسومة باللون الواحد العربي المسلم, مدعاة للشعور بالفقر, ومجلبة للطغيان والاستبداد.. وها هو السودان الجديد, المتعدد الالوان, يعلن عن حقيقته للمرة الاولى منذ استقلاله, معترفا بانه للجميع, لا للعروبة لوحدها, ولا للزنوجة لوحدها, وان كل مافيه من كائنات بشرية هي سودانية سواء دانت بالاسلام, او بالمسيحية, او بالوثنية, وتحدثت فصحى العرب او لهجات الغابات.

رئيس السودان عمر البشير كان مزهوا بهذا السودان, وكان معترفا بأن الوصول اليه بقوة السلاح كان مستحيلا, وان هذا الوصول لم يكن ممكنا الا باعتناق ثقافة الالوان والتعدد, والقبول بمساعدة الكبار لتسهيل هذه القناعة, وجعلها ثقافة سائدة, متجانسة, وخالية من التفخيخ الديني, والعرقي, واللغوي.

وفي نهاية الامر اتضح للسودانيين, بكامل اطيافهم ان ازمتهم تكمن في الرقم الاقتصادي, وليس في الرقم الآخر الجانح نحو حسابات الطغيان والهيمنة وإقصاء الآخرين. ومن هنا كان الخطاب العام مرتكزا على استئناف تنمية الاقليم الجنوبي واعماره, وبقيادة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في كل الولايات ومن دون تمييز. وان هذا البرنامج الواقعي والواعي ستنهض, به حكومة وحدة وطنية, تعمل الى جانب ذلك في اشاعة الاستقرار السياسي والامني في البلاد, وبناء امة سودانية موحدة.
في هذا السياق التاريخي, في نظرنا, نسجل للدكتور جون غارانغ, نائب الرئيس, انه قاتل ضد الاقصاء والاحتواء والطغيان الثقافي من دون ان ينسى انه سوداني, وان قتاله مربوط بهدف اقامة هذا السودان المتعدد الذي اصبح نائبا للرئيس فيه.. الرجل لم يقاتل لاجل دولة مستقلة في الجنوب لانه كان يدرك لو ان قتاله ارتهن بهذه الغابة لكانت افعال السلطة في الشمال كلها مبررة, بما في ذلك سعيها للاحتواء, وفرض الثقافة العربية والاسلامية على الجميع بقوة السلاح.

جون غارانغ اثبت انه مواطن سوداني ممتلئ بالفكر, وصاحب مرئيات متقدمة نرجو ان تلاقيها مرئيات مماثلة لدى البشير, الذي نعتقد الآن انه قابل بالانتماء الى احد مكونات الامة السودانية, ولم يعد كل هذه الامة.
ان المبالغ الطائلة التي انفقت على الحرب بين الشمال والجنوب نريد ان نقتنع انها انفقت من اجل بلوغ الوعي السوداني الحاضر الذي اصبح قابلا بالتعدد, وبالاختلاف, وبوحدة الامة بمختلف اطيافها, ولو ان هذه الاموال بذلت من اجل التنمية وليس من اجل تغذية مشاريع الكراهية والموت, لكان السودان الآن واحة تقدم وازدهار وبحبوحة اقتصادية, سواء تكلم بالعربي او الانكليزي, او بلهجات الغابة.
السودان مليء بالخير والفرص وربما لأجل الافادة من هذا الواقع الواعد نرى ان الصراع فيه قد انتهى بالاتفاق, وعلى ان الازمة كلها كانت مختصرة برقم اقتصادي وليس بأي رقم آخر.
السودان يزهو بنفسه الآن, وبنظامه الانتقالي الجديد, وانه فتح الخطوط بين الحساسيات السياسية والثقافية والدينية واللغوية, وانه اعلن استقلاله الثاني بقيام امة واحدة متعددة لم تعد قابلة للانفراط.
ويبقى السؤال: هل تأتي ولادة السودان الجديد في هذه الاوقات العصيبة لتكون نموذجا