الحياة: الإثنين: 18. 07 . 2005
تساءل عمن سيكون الهدف المقبل للقتلة واستثنى نفسه
الساعات الأخيرة من حياة جورج حاوي، التي كنت فيها شاهداً مع عدد من رفاق دربه، تلخص، وتختصر في شكل مثير للدهشة، بعضاً من أساسيات تجربته الفائقة الغنى، كقائد سياسي من الطراز الرفيع في الحزب الشيوعي اللبناني وفي حركة اليسار اللبناني والعربي وفي الحركة الوطنية اللبنانية بكل صيغها القديمة والحديثة، وبكل ما ارتبط بنضال الشعب اللبناني من أجل الحرية والديموقراطية والتقدم ومن أجل أرقى أشكال العدالة الاجتماعية. بل إنَّ هذه الساعات القليلة تشير إلى قمة الوعي والمسؤولية عند هذا القائد الفذ في النظر الثاقب إلى المستقبل، وذلك في مزيج مركَّز وعميق بين أحلامه المستوحاة من يوتوبيا اشتراكية ماركس، وبين واقع بلده لبنان الشديد التعقيد، وواقع بلداننا العربية على امتداد تاريخها القديم والحديث، وبين تحولات العصر الكبرى التي قرأها جورج بعناية فائقة، بالعظيم منها وبالأكثر بشاعة في آن.
أفاق جورج حاوي، وأفاق اللبنانيون جميعاً، صبيحة يوم الاثنين، العشرين من شهر حزيران (يونيو)2005، على ضجيج انتصار حقَّقه تحالف المعارضة في انتخابات دائرتي الشمال، الذي كرَّس انتقال المعارضة من معارضتها باسم انتفاضة الاستقلال إلى الموقع الرئيس في السلطتين التشريعية والتنفيذية. وكان جورج يتوقع هذا الانتصار أكثر من سواه. وقد ساهم بجهد كبير في تحقيقه. وكما كنت أتوقع فقد كان جورج، في ذلك اليوم بالتحديد، أسير هواجس متناقضة، تتراوح بين إدراكه الأهمية الكبرى المتمثلة بتلك النتائج، وبين قلقه الكبير من أمرين: يتمثل الأول منهما في ما برز خلال الانتخابات من اصطفاف طائفي بعضه مصطنع وبعضه استمرار لتاريخ قديم. ويتمثل الثاني بالقلق من مدى قدرة المعارضة على الاستمرار في تماسكها. ويتمثل بالقلق من مدى قدرة السلطة الجديدة على وقف مسلسل الاغتيالات والتفجيرات الهادفة إلى زعزعة الاستقرار، هذا المسلسل الذي يستمر، باسم، أو برعاية، أو في ظل، النظام الأمني اللبناني ـ السوري الذي يتداعى، ولمصالح رموزه في البلدين، معظمهم أو بعضهم على الأقل. كما يتمثَّل بالقلق من مدى قدرة ورغبة هذا التحالف العريض في السلطة وخارجها على الأمانة لشعارات انتفاضة الاستقلال التي تعبِّر عن أحلام الأجيال الشابة في الانتقال بلبنان من ضفة الظلام والعبث والاستبداد والفساد إلى ضفة الحرية، الضفة التي تتم فيها قيامة لبنان، وقيامة دولته الديموقراطية الحديثة.
اتصلت بجورج حاوي في ذلك الصباح لكي نلتقي ونتحدث في ما كنت أعتبره هواجس مشتركة بيننا حول الحاضر والمستقبل. واتفقنا على اللقاء في مساء ذلك اليوم. واستبقنا اللقاء بجلسة حوار مع رفيقي ورفيق جورج سمير مراد، تحضيراً لذلك اللقاء المرتقب. أخذنا جورج بسيارته التي كان يقودها بنفسه، بعد أن كان قد أمضى بضع ساعات حميمة مع زوجته الدكتورة سوسي مادايان في مرتفعات بلدة حريصا، في مقهى قريب من تمثال العذراء. وكأنه كان يريد في تلك الساعات من مساء ذلك اليوم توديع الزوجة الرائعة التي رافقته في أحسن الظروف وفي أكثرها صعوبة وقسوة، توديعها بكثير من الحب والوفاء. ثم جاء ليودعنا نحن بعض رفاقه، ويودع من خلالنا كل رفاقه وكل أصدقائه، ويودع شعبه والوطن الذي وهبه كل حياته من أجل أن يحقق له حريته وتقدمه المستلبين.
كان الجزء الأول من اللقاء في التاسعة والنصف مساءً في منزل جورج البطل، بحضور رفيقين آخرين من رفاق جورج المقرَّبين إليه هما يوسف مرتضى ومصطفى أحمد. بدأ جورج اللقاء على الفور بعرض تصوراته حول ما يمكن أن يحدث من تطورات، في ضوء ما أسفرت عنه الانتخابات من نتائج، بصفتها، أي هذه الانتخابات، المرحلة الثانية ـ بعد خروج القوات السورية من لبنان ـ من المراحل التي يفترض بها أن تستكمل انتقال البلاد من النظام الأمني اللبناني ـ السوري إلى صيغة من صيغ النظام الديموقراطي، حتى وهي تحمل التباسات الطائفية التي لم يتحرر لبنان منها بعد، والتي ستحتاج إلى زمن ضروري وإلى شروط لا بد من توفيرها بعقل وواقعية، كي يتحرر منها، أي الطائفية، ولو بعد عقود. وكانت أفكاره الكثيرة حول الاحتمالات في الاتجاهين الإيجابي والسلبي في هذه النتائج وفي التطورات المرتبطة بها مدار نقاش استمر ساعتين، اقترح جورج بعدها أن نتابع النقاش في لقاءات أخرى مع رفاق وأصدقاء آخرين، وذلك بعد عودته من السفر الذي كان مقرراً في اليوم التالي، اليوم الذي استشهد فيه. واصطحبنا جورج، سمير مراد وأنا، في سيارته التي كان يقودها هو بنفسه، إلى مطعم ديو في وسط المدينة. وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ليلاً. ولأنه يعرف أنني من الذين يذهبون إلى النوم في مثل هذه الساعة فقد طلب مني أن أتخلَّى في تلك الليلة عن هذا الموعد، وأن نذهب معاً لمتابعة حديثنا، خلال تناول العشاء. وبدأت السهرة من جديد. وفاضت أفكار جورج مثل ينبوع غزير، كما لو أنه كان يريد أن يخرج كل ما في تجربته الغنية من أفكار تتصل بالآتي القريب من أيامنا، وبالبعيد الذي تشير إليه تطورات الأحداث، ويستشرفه أصحاب النظرة الثاقبة الى المستقبل.
ما أجمل ذلك اللقاء الوداعي، وما أرقاه، وما أكثر الحزن الذي خلفه فينا وداعه لنا في هاتين الساعتين الخالدتين في أعماق وجداننا.
ماذا قال جورج؟ ماذا قال هو بالتحديد، من دون الإشارة إلى ما قلناه نحن، سمير وأنا. وما قاله جورج في هاتين الساعتين هو خلاصة حقيقية لإحساسه العميق بالمسؤولية. وهو ما سأحاول تلخيصه هنا بجملة من القضايا:
*القضية الأولى هي القضية المرتبطة بموقع اليسار في حركة التغيير الديموقراطي. ويبدأ جورج هنا بطرح القضية التي تهمه وتقلقه، وهي قضية الحزب الشيوعي، الحزب الذي أعطى جورج عصارة عمره فيه، مناضلاً وقائداً، وصاحب مدرسة خاصة به في تحديد المهمات، وفي تغييرها مع تغير الظروف، وفي تحديد أشكال العمل الملائمة لكل ظرف ولكل قضية، وفي ابتداع الصيغ الأكثر واقعية والأكثر بساطة في العلاقة بين الرفاق وفي العلاقة مع الناس العاديين من أبناء شعبنا ومع النخب الثقافية ومع الحلفاء والخصوم ومع كبار القوم من أهل السلطات ومن شركائهم ومن ردائفهم. كان القلق على الحزب عنده في تلك اللحظات أكبر من أن تحيط به أو تخفف منه الصيغ الجديدة التي كان يقترحها لمواجهة أزمة الحزب المستعصية على الحل. وهي كانت صيغاً متعددة، لم يجزم في أيها الأكثر واقعية والأكثر قدرة على إعادة الحزب إلى تاريخ كان فيه طليعياً وذا دور وتأثير كبيرين في الحياة السياسية وفي المجتمع على الصعيدين اللبناني والعربي. وجاءت هذه الصيغ في شكل أسئلة كان يطرحها جورج علينا وعلى نفسه خلال ذلك اللقاء، مثلما كان قد طرحها على رفيقي دربه جورج البطل وأنا في مناسبات عدة سابقة: هل ثمة إمكان لإقناع القيادة الحالية للحزب بفتح باب الحوار مع الشيوعيين كافة، من داخل التنظيم وهم القلة، ومن خارجه وهم الكثرة التي تشكل في علاقتها مع الأصدقاء عشرات الألوف من الذين يحرصون على الخروج من أماكن انكفائهم كلما برزت مناسبة ذات صلة بتاريخ الحزب المجيد، وكلما سقط للحزب شهيد من مناضليه ومن قيادييه؟ هل يصح، وهل هو ممكن واقعياً، أن نتوجه (ويقصد جورج هو ونحن بعض رفاق دربه من قدامى الحزب ومن بعض المخضرمين) إلى هذه الكثرة من الرفاق خارج التنظيم، إذا ما تعذَّر إقناع قيادة الحزب بتغيير نهجها السياسي والتنظيمي، من أجل تجميع هؤلاء المناضلين في صيغة سياسية أو تنظيمية لا تنافس الحزب ولا تختلف معه، ولا تحمل اسمه، بل تمارس فعلاً سياسياً يستند إلى تجارب جيل من الشيوعيين القدامى والمحدثين كان لدورهم أثر مهم في تطوير الحزب، وهو دور تتطلب مثله بالأخص هذه المرحلة الصعبة المملوءة بالألغام التي تجتازها البلاد؟ ألا يشكِّل مثل هذا التجميع نوعاً من الانقسام في الحزب لا يرغب أحد منا أن يكون مسؤولاً عنه؟ هل يكون من الأفضل، بدلاً من هذا وذاك، أن يلتقي عدد من القيادات والكوادر القديمة والجديدة الموجودين خارج هيئات الحزب وخارج ميادين نشاطه ـ مثل جورج نفسه وجورج البطل وأنا وآخرين وربما رفاق من داخل الهيئات القائمة ذاتها ـ أن يلتقي هؤلاء مع عدد موازٍ أو أكثر من شخصيات سياسية وثقافية لإطلاق حركة جديدة، ديموقراطية في برنامجها، يسارية في جوهر طروحاتها الفكرية، تكون قادرة على تحريك جمهور كبير من اللبنانيين الطامحين إلى التغيير الديموقراطي في إطار هذا التحول الكبير الذي شهده لبنان لأول مرة منذ عقود؟
وكان جورج في اسئلته تلك أكثر ميلاً إلى هذا النوع الأخير من الصيغ الذي أعطاه اسماً حبيباً إلى قلبه «التجمع الوطني الديموقراطي». وإذ اعتبر أن مثل هذا التجمع المفترض فيه أن يكون متحرراً، في أفكاره وسياساته وفي علاقات أفراده بعضهم ببعض وفي أشكال وأدوات عمله، من جميع عناصر الخلل التي شابت تجربتنا الحزبية، فإنه رأى، في المقابل، أن علينا نحن (يقصد الشيوعيين الأعضاء في التجمع) أن نساهم مع سائر أعضاء التجمع في إحياء وتعميق وإغناء كل ما ارتبط بالاشتراكية وبالمفكرين الاشتراكيين والديموقراطيين بمذاهبهم المختلفة من عظمة في الفكر وفي استشراف المستقبل وفي التطور والتجدد مع الحياة، وما ارتبط بها من قيم تظل منارة في تاريخ بلادنا وفي تاريخ العالم، معتبراً، في هذا السياق، أن الجديد العظيم الذي لم يولد بعد لن تكون مهمة توليده مهمة فرد عظيم، بل هي صارت مسؤولية كل قوى التغيير من المبدعين في كل ميادين البحث والاستقراء والتحليل والاستشراف.
في هذا السياق من طرح الأسئلة حول الحزب وحول جمهور الشيوعيين، وحول اليسار ومستقبله، أعاد جورج تذكيري بما كنا قد التقينا عليه كلانا في نقد موقفنا من المؤتمر السادس للحزب الذي عقد في عام 1992. جوهر ذلك النقد الذاتي، الذي أحرص هنا على الجهر به اليوم باسم جورج وباسمي، يطال قرارنا، هو وأنا خصوصاً وقرار رفاق جيلنا ـ باستثناء خليل الدبس الذي لم يلبث أن غادرنا بعد وقت قصير صريع مرض خبيث ـ قرارنا ـ من دون تنسيق واتفاق مسبقين من قِبلنا ـ بالانكفاء في صيغ مختلفة، هو بالاستقالة من موقع الأمين العام للحزب، رغم عدم موافقتنا عليها نحن رفاقه، وأنا بالاكتفاء بتحمُّل مسؤولية إعادة إصدار مجلة «الطريق» بعد أن توقفت عاماً كاملاً في العيد الخمسين لتأسيسها، والآخرون بالانكفاء، أو ما يشبهه، كل على طريقته، حتى داخل الهيئات القيادية الجديدة التي كان المؤتمر قد انتخبها. وكان موقفنا ذاك يتناقض في جوهره مع ما كنا قد أنجزناه في المؤتمر من تقدم في الفكر وفي السياسة وفي الصيغة التنظيمية الديموقراطية للحزب، وكرَّسناه في الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر بالإجماع. وتتضمن هذه الوثيقة مراجعة نقدية أولية لخطنا السياسي في الحرب الأهلية. كما تتضمَّن محاولة جريئة لتحرير أفكارنا من النمطية القديمة باسم ماركسية محنطة لا علاقة لماركس بها، ولا علاقة لها لا بواقع بلداننا، ولا بواقع العصر. وفيها تأكيد جديد على تمايزنا في فهم جوهر الاشتراكية عن كل نمط سابق مما كان معمماً، وأسقطته الحياة بالتجربة. وفيها عودة إلى فكر ماركس الذي يعتبر الإنسان الفرد هو جوهر الحياة والنشاط وجوهر كل عمل سياسي لأي حركة ولأي حزب، لا سيما بالنسبة للحزب الشيوعي، الحزب من نوع جديد الذي كان ماركس قد أسَّسه على قاعدة التعددية والحرية والإبداع والالتزام الطوعي وغير القسري. وفيها دعوة إلى نقاش عميق لا نهاية له حول المعنى الجديد والشكل الجديد اللذين يمكن أن تتجلَّى فيهما أفكار ماركس العظيمة. وهي ذاتها أفكار تنتمي إلى تاريخ ويشيخ منها ما يشيخ ويبقى ما هو قابل للحياة. حققنا ذلك الإنجاز في المؤتمر السادس الذي شارك فيه العديد من كوادر الحزب ومناضليه، وقررنا، في موقف أخلاقي غير سياسي ـ وهنا خطيئتنا الأساسية - أن نراعي رأي ومشاعر جمهور صغير من اعضاء المؤتمر كان يرفض تغيير اسم الحزب حفاظاً على تاريخ قديم وعلى تقاليد ونمط علاقات اعتاد عليها الشيوعيون وصارت جزءًا من حياتهم اليومية. وكان اقتراحنا يومذاك، في ضوء ما أنجزناه في هذه الوثيقة الفكرية السياسية، العودة إلى الاسم الأول للحزب، «حزب الشعب»، الذي اختاره المؤسِّسون ورفضه ممثل الأممية الشيوعية، ورفض مجرد التفكير فيه المؤتمر السادس للأممية في عام 1928. وكان من نتائج ما فعلناه أخلاقياً أن ما بقي من الحزب في ذلك المؤتمر هو اسمه القديم ومعه تقاليده القديمة وأنماط عمله وأنماط العلاقات داخله، التي أدانها سقوط الاشتراكية في مركزها الأساس الاتحاد السوفياتي. أما البرنامج الجديد فقد ذهب أدراج الرياح. ونسيه الشيوعيون. هذا النقد الذاتي كان مفترضاً بنا نحن الاثنين أن نعلنه ذات يوم لكي يعرف الرفاق الشيوعيون أننا، نحن الاثنين خصوصاً، ومعنا رفاق آخرون من جيلنا ومن الجيل الجديد، نتحمل مسؤولية كبيرة عن استمرار أزمة الحزب وعن وصولها إلى حالة الاستعصاء على الحل.
*القضية الثانية هي قضية اليسار عموماً، وحركة اليسار الديموقراطي الوليد الجديد على وجه الخصوص. أول ما طرحه جورج في هذا الإطار هو كيفية مساعدة الرفيق الياس عطا الله، أول نائب يساري من أصول شيوعية أكثر وضوحاً ـ بعد حبيب صادق ـ يدخل الندوة النيابية، مساعدته وتوفير الشروط التي تجعل من نشاطه ومن مواقفه نموذجاً جديداً كممثل لليسار في هذا الموقع السياسي التشريعي الفائق الأهمية. وكان جورج قد اتفق مع الياس على اللقاء به في اليوم التالي والتباحث معه في هذا الشأن ـ وهي قضية كان جورج قد بدأ بطرحها في الجلسة الأولى من تلك السهرة في منزل جورج البطل، وكانت موضع ترحيب من الجميع. واستطرد جورج سائلاً حول كيفية مساعدة هذه الحركة الناشئة، حركة اليسار الديموقراطي، من خارجها ومن موقع الصداقة والرفاقية، لكي تلعب دوراً متميزاً، ولكي تكون واحداً من مراكز اليسار ومن روافده، وشريكاً لمراكز أخرى، من بينها الحزب الشيوعي في صيغته الراهنة، أو في صيغ أخرى محتملة، بهدف إعطاء مركز أساسي لليسار في المعركة الراهنة وفي تحدياتها الكبرى، على طريق الانتقال بلبنان إلى ضفة الحرية، بديلاً من النظام الأمني، ونقيضاً ديموقراطياً له. وعلى رغم أن جورج كان حريصاً على هذا الدور لليسار فإنه كان يؤكِّد، في المقابل، أنَّ اليسار لا يمكن أن يكون، حتى ولو حظي بدعم أكثرية الشعب، إلاَّ شريكاً للقوى الديموقراطية الأخرى على اختلافها في كل ما يتصل بقضايا البلاد وبهموم الشعب في الحرية والتقدم، تحقيقاً لشعار الشيوعيين القديم: وطن حر وشعب سعيد.
*القضية الثالثة تركَّزت حول الإسهام في جعل تحالف المعارضة الذي انتصر في الانتخابات وتحوَّل بفعل انتصاره إلى سلطة مقبلة، جعله قادراً على الوفاء بشعارات انتفاضة الاستقلال، والحيلولة دون احتمالات التراجع عنها أو التقليل من شأنها أو المساومة عليها، لأهداف ومصالح خاصة، أو خاصة وعامة معاً، من نوع ما شهدنا نماذج منه، وذلك في ظل ما برز في الانتخابات من استنفار واصطفاف طائفيين مثيرين للقلق. وكثرت الصيغ التي اقترحها جورج في هذا المجال. اقترح تشكيل منبر تلتقي فيه شخصيات ديموقراطية من يسار الوسط متعددة في اتجاهاتها، متفقة في ما بينها على الأساسي من المهمات، ملتزمة بما أعلنته بالمفرد وبالجمع من مواقف تؤكِّد على ضرورة مواجهة المرحلة المقبلة بالكثير من العقل والواقعية، وبالحوار بين جميع القوى من أجل استكمال انتقال لبنان إلى النظام الديموقراطي المتحرر من كل أنواع الهيمنات الإقليمة والدولية. وموقف جورج من الوصاية الخارجية واضح. فهو قد أعلن بوضوح أنه ضد استبدال الوصاية السورية بوصاية أجنبية. لكنه كان يفرِّق بين الدور الذي يجب أن يضطلع به المجتمع الدولي في مساعدة لبنان على معرفة الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي جريمة اغتيال سمير قصير، وعن التفجيرات الأمنية، وبين الحرص من قبل اللبنانيين على استقلال بلدهم وعلى قراره الحر، وعلى اختيار شكل نظامهم الديموقراطي وصيغة علاقاتهم مع الأشقاء والأصدقاء، وصيغة مواجهتهم لأطماع الخصوم والأعداء من كل الجهات والاتجاهات ومن كل الجنسيات. لكن جورج اقترح في الوقت ذاته أن يقوم هو، وأن يساعده آخرون منا نحن رفاقه إذا أمكن، بسلسلة لقاءات مع القوى السياسية في تحالف المعارضة الذي انتصر في الانتخابات، وفي بعض التجمعات السياسية الأخرى، التي ربحت والتي خسرت في الانتخابات، وتحديداً التجمع الذي أنشأه الجنرال ميشال عون، والبحث مع هؤلاء جميعاً في تحمل المسؤولية الوطنية تجاه البلد في هذا المنعطف الصعب من تاريخه الحديث. ونقطة الانطلاق عند جورج في هذا الأمر هو أننا يجب أن نتعامل مع شعبنا ومع قواه السياسية بدون تخوين، أي بافتراض أن كل اللبنانيين هم وطنيون حريصون على وطنهم، حتى وهم يختلفون ويتناقضون ويتصارعون في ما بينهم حول كل أمر من الأمور الخاصة ببلدهم. وإذ اعتبر جورج أن العمل لصياغة قانون انتخاب جديد ديموقراطي يؤمِّن التمثيل الصحيح لجميع مكونات المجتمع اللبناني في البرلمان هو مهمة مباشرة مطروحة أمام جميع القوى وأمام البرلمان الجديد المنتخب، فإنه رأى في المقابل أن إلغاء المحاصصة الطائفية في مؤسسات الدولة، في اتجاه العلمنة، بمعنى الفصل بين الدين والدولة، هو عملية طويلة ومعقدة، وأن القفز فوق الوقائع العنيدة، وتجاوزها بالقسر، هو مغامرة لا يجوز لليساريين وللديموقراطيين وللمؤمنين بالعلمنة أن ينخرطوا فيها ويتحملوا مسؤولية نتائجها. ومعروفة اقتراحاته الخاصة بقانون الانتخاب على أساس النسبية التي يراعي فيها الواقع الموضوعي في البلاد، ويقترح الشروط التي تهيئ إمكان تجاوز الطائفية في صيغتها الوطنية الراهنة بالتدرج ولزمن ضروري لا يجوز القفز فوقه بتعسف. وأكَّد في هذا السياق ثقته المطلقة بأن الأجيال الشابة التي صنعت انتفاضة الاستقلال ستكون قادرة، مع تعاظم الوعي في صفوفها، وتحررها التدريجي من قيود تراث انتماءاتها الطائفية والعائلية، على لعب دورها في صنع مستقبل بلدها، الذي هو مستقبلها. وأكَّد، في الوقت عينه، أن مسؤولية القوى اليسارية والديموقراطية في هذه العملية كبيرة جداً. فالشباب لا يزالون، في المرحلة الراهنة وبعد طول غياب وانكفاء، بحاجة إلى تحصين مشاعرهم من الإحباط لدى أي نكسة أو تراجع، وإلى تعميق وعيهم بدورهم، وإلى مساعدتهم في اختيار طريقهم للعب هذا الدور، استناداً إلى التجارب السابقة، تجاربنا نحن الذين قمنا بإنجازات، وارتكبنا أخطاء وخطايا، ونقد هذه التجارب وتجاوزها نحو الأفضل والأرقى والأكثر تلاؤماً وتطابقاً مع الظروف الجديدة ومع مهماتنا فيها، في بلادنا وفي العالم.
*القضية الرابعة هي تلك التي تتصل بموقع لبنان في المنطقة، وموقعه في أسرة الدول العربية، وفي طموحات شعوبنا نحو الإصلاح الديموقراطي الذي يحررها من أنظمة الاستبداد، ويوحدها في إطار مؤسسة عربية ديموقراطية تحترم خصوصيات كل بلد، وذلك على غرار ما هو قائم في أوروبا وفي مناطق أخرى في العالم. واقترح في هذا السياق، كمهمة أولى، العمل مع الأشقاء السوريين لكي يستفيدوا من تجربة الخطأ التي سادت في علاقات دولتهم ببلدنا لبنان، على مستوى الدولة بمؤسساتها وعلى مستوى المجتمع وقواه، وتحولت إلى كارثة في العلاقات بين بلدينا وشعبينا. كان جورج يعتبر أن المسؤول الأول عن الخلل في العلاقات اللبنانية ـ السورية هم أهل الحكم في عهوده كلها ومعهم شركاؤهم من خارج السلطة، الذين هيأوا الشروط لكي يرتكب الأشقاء السوريون ما ارتكبوه من أخطاء فادحة خلال الأعوام الخمسة عشر التي كانوا في بداياتها مكلفين بإخراج لبنان واللبنانيين من الحرب الأهلية ومن صراعاتهم فيها، إلى سلم أهلي كان يشكل اتفاق الطائف مرحلة من مراحلها. لكن جورج كان يرى أن تصحيح هذه العلاقات وتحريرها من الأخطاء يتطلب من الأشقاء السوريين في الدرجة الأولى وعلى أعلى المستويات نمطاً مختلفاً من السياسة ومن السلوك، يبدأ بمراجعة نقدية للحقبة الماضية، وينتهي بالبحث عن صيغة جديدة بالكامل للعلاقات بين البلدين الشقيقين قائمة على الاحترام المتبادل لسيادة واستقلال كل منهما، وعلى قاعدة المصالح المشتركة بينهما وما أكثرها. لكن جورج لم يخفِ قلقه من أمرين قائمين لا يجوز الاستهانة بهما وبأثرهما السلبي: يتمثل الأمر الأول بمكابرة الأشقاء السوريين وبعدم إقرارهم بواقع مؤلم بالنسبة إليهم وإلينا هو أنهم خرجوا من لبنان، وذلك بصيغة سيئة لم يردها اللبنانيون ويتحملون هم مسؤولية سلبياتها، وأن هذا الخروج هو نهائي لا عودة عنه، وأن تاريخاً جديداً من العلاقات بين البلدين والشعبين الشقيقين يجب أن ينخرطوا هم وأن ننخرط نحن، على مستوى الدولة ومؤسساتها، والمجتمع ومؤسساته في البلدين، في تحديد مضامينه وأشكاله بعناية فائقة للحفاظ على جوهر ما اتفق على تسميته بالعلاقات المميزة بين البلدين.
خطورة ما رآه جورج في مكابرة الأشقاء السوريين بعد خروجهم من لبنان هو أنهم مارسوا نوعاً من الكيدية في التعامل مع الواقع الجديد الناشئ في لبنان، أحياناً في صورة مباشرة، وأحياناً أخرى بالواسطة، وهو الأشد خطراً. أما الأمر الثاني فيتمثل في أن جمهوراً من اللبنانيين، وعدداً معيناً من المسؤولين في مواقع السلطة وعلى تخومها ممن كانوا شركاء لسورية في القرار السياسي وملحقاته، ما زالوا غير مصدقين أن السوريين لم يعودوا موجودين في لبنان وأن وضعاً جديداً قد بدأ يدخل قيد التحقق. ويقول جورج في هذا الصدد إن حال هؤلاء شبيه بما كان عليه حال جمهور من الشيوعيين لم يستطع أفراده ولا مجموعاته أن يصدقوا، ولزمن طويل، أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً.
إلاَّ أن جورج كان يرى أن التغيير في سورية هو مهمة الشعب السوري، ولا دور لنا فيه إلاَّ بالتضامن مع قوى المجتمع المدني الحية ومع المثقفين حين يتعرضون ـ وما أكثر ما تعرضوا ـ لاعتداء على حرياتهم وعلى حقوقهم المدنية وعلى أفكارهم وعلى أحلامهم في التغيير. وهو موقف أكد فيه جورج مرات عدة أننا نحن ملتزمون به، كشيوعيين وكيساريين وديموقراطيين لبنانيين، إزاء كل الشعوب العربية، وإزاء شعوب الأرض كافة. وتاريخ لبنان حافل بمواقف التضامن مع جميع الأحرار في العالم. ومعروف أنَّ لبنان كان دائماً، ومن قديم الزمان، المكان الذي كان يلجأ إليه الهاربون من القمع في سائر البلدان العربية.
لكن جورج المسكون بالقضية الفلسطينية منذ شبابه الأول كان يدرك أن على اللبنانيين، من كل المواقع، أن يكونوا إلى جانب أشقائهم الفلسطينيين، بالممكن وبالمتاح، استمراراً لتاريخ مجيد من تضامن الشعب اللبناني مع أشقائه الفلسطينيين منذ أن هُجِّروا من أرضهم وسُجنوا في مخيمات البؤس والذل، ولتاريخ مجيد من النضال بكل الأشكال بما في ذلك بالسلاح لإزالة هذا القهر، ولمساعدتهم في استعادة أرضهم وبناء دولتهم المستقلة عليها. لكن جورج كان شديد الحذر إزاء كل مغامرة من أي نوع تسيء إلى وحدة لبنان ووحدة شعبه ووحدة وتماسك دولته ووحدة وتماسك مؤسساتها، تحت الشعار القديم الذي يعتبر بحق أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية مركزية بامتياز. واعتبر جورج أن من أولى مهمات الدولة اللبنانية في المرحلة المقبلة هي رفع الغبن عن اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات التي تحولت بقرارات من شتى الجهات والاتجاهات إلى غيتوات وإلى قنابل موقوتة.
*القضية الخامسة هي القضية المتصلة بفهم ما يجري من تحولات في العالم. ففي رأي جورج أن هذه التحولات الكبرى ليست شراً كلها. بل هي تنطوي في كثير من جوانبها على تطور هائل في كل ما يتعلق بتحسين شروط البشر في عملهم وفي حياتهم، وفي التفاعل بين ثقافاتهم، وفي امتلاك المعرفة حيث توجد، وفي تقريب المسافات بينهم وبين مشاعرهم وهواجسهم وأفكارهم وطموحاتهم. وهذا هو الجانب العظيم من العولمة. لكنه كان يرى أن على جميع القوى الحية في بلداننا أن تلتقي مع القوى الحية في جميع البلدان، من دون أفكار مسبقة، ومن دون الوقوف عند التباينات والتناقضات ذات الطابع الفكري والسياسي والاجتماعي، من أجل تشكيل كتلة تاريخية جديدة تواجه شراسة ووحشية قوى الرأسمال المعولم، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وتسعى باسم هذا الرأسمال للهيمنة على العالم، والتحكم بمصائر شعوبه.
*القضية السادسة هي القضية المتصلة بكيفية استخدام المنابر الإعلامية، المكتوبة والمسموعة والمرئية، بالإمكانات المتاحة لدى اهل اليسار ولدى سائر القوى الديموقراطية ولدى كل الوطنيين، من أجل خلق قضية وطنية لبنانية موحدة، لا تختصرها شعارات الحرية والاستقلال والسيادة ومعرفة الحقيقة عمن اغتال الرئيس رفيق الحريري وزملاءه وعمَّن اغتال سمير قصير، بل بتحديد أكثر دقة لهذه الشعارات من خلال إعطائها مضموناً ديموقراطياً واضحاً، يتمثل، من وجهة نظر جورج، في جعل نظامنا الديموقراطي البرلماني اللبناني نظاماً ديموقراطياً حقيقياً، نظاماً تعددياً يشمل مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع، وتتحرر فيه هذه المؤسسات جميعها من الصيغ الاستبدادية السابقة كلها القديمة منها والحديثة. واقترح عليَّ في هذا السياق أن نؤسِّس مركزاً للأبحاث إلى جانب مجلة «الطريق»، عندما ستعود للصدور في العام القادم، مركزاً يهتم فيه الباحثون بكلِّ ما يتصل بقضايا بلداننا وبقضايا العالم المعاصر.
في نهاية الجلسة كرَّر جورج ما كان قد طرحه في بدايتها السؤال على نفسه وعلينا عمَّن سيكون الهدف القادم للقتلة غداً، بعد اغتيال سمير قصير. وأعرب عن خوفه على الياس عطاالله واستثنى نفسه. لكن أكثر ما كان يقلقه ويرعبه في هذا المجال هو احتمال أن يستهدف القتلة شخصيات يثير اغتيالها فتناً يصعب التحكم بها وبنتائجها، وذلك من أجل زعزعة الاستقرار في البلاد، وإفهام القاصي والداني بأن الشعب اللبناني ما زال قاصراً وعاجزاً عن إثبات قدرته على حكم نفسه بنفسه، وأنه لا يزال في حاجة إلى وصي خارجي، من أشقاء أو من أصدقاء أو حتى من قوى دولية ذات أطماع. وحدَّد جورج أسماء الشخصيات المحتمل استهدافها لذلك الغرض الخبيث بوليد جنبلاط وحسن نصر الله وميشال عون، من دون أن يستثني سيد بكركي البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. ثم استدرك جورج، في هذا الصدد بالذات، سائلاً: أما إذا كان الهدف هو إرباك لجنة التحقيق الدولية فمن المحتمل أن يلجأ المخططون لهذه الاغتيالات إلى أعمال عشوائية لا منطق محدداً في اختيار أهدافهم فيها، لتطاول فيمن تطاول أفراداً من قامات مختلفة ينتمون إلى جهات واتجاهات متناقضة.
واعتبر جورج أن المهمة الأكثر إلحاحاً بعد الانتهاء من إجراء الانتخابات، هي الإسراع في تشكيل حكومة الأكثرية البرلمانية التي يفترض بها أن تعمل على تحرير البلاد من مخلَّفات السياسات الاقتصادية والاجتماعية للعهود السابقة، وأن تتطلَّع إلى المستقبل بروح جديدة، وأن يكون من أولى مهماتها تطهير الأجهزة الأمنية ومساعدة لجنة التحقيق في معرفة الحقيقة عن كل ما جرى وما يُجرى، وتحديد هوية الفاعل بالاسم وبالجهة التي يمثلها ويمثل مصالحها وأهدافها. فذلك هو الشرط الأساس لمنع أي تحريف أو تشويه في مهمة لجنة التحقيق الدولية يخرجانها عن مهمتها الأصلية. وأكَّد ما كان قد أعلنه في العديد من أحاديثه تحميله المسؤولية عما جرى وعما يُجرى للنظام الأمني اللبناني ـ السوري ورموزه، ابتداءً من التمديد المتعسف للرئيس إميل لحود، وصولاً إلى الوضع الذي ما زالت البلاد تعيش في أجوائه. وأضاف أن هذا الواقع بالذات هو الذي يمكن أن يسهِّل لأي طرف آخر، إسرائيلي أو سواه، ارتكاب الجرائم، من دون أن يحرر النظام الأمني اللبناني ـ السوري من المسؤولية عن هذه الجرائم.
تلك هي باختصار مكثف الهموم والمهمات التي تركها لنا جورج حاوي في الساعات الأخيرة السابقة على استشهاده. ذلك أن فيض الأفكار والصيغ العامرة بالإحساس العميق بالمسؤولية إنما يشير إلى أن الوعي الباطني لدى جورج هو الذي قاده إلى أن يودعنا في تلك الليلة وخلال ذلك العشاء، ويحمِّلنا ما يشبه الوصية قبل أن يغادر الحياة ويغادر رفاقه إلى الأبد.
هل هذه هي وصية جورج حقاً؟
لا أعتقد ذلك. لأنَّ الوصيَّة إنما يكتبها صاحبها بقلمه وبلغته وبالكلمات التي يختارها هو ويختار لها معانيها ومقاصدها.
وفي أي حال فإنني آمل أن أكون قد حرَّرت ما قاله جورج بأكثر ما يمكن من الدقَّة، آخذاً في الاعتبار أن سيرته هي وحدها القادرة على التدقيق والتوضيح في حال بروز أي خلل في هذا النص.
كاتب لبناني.
التعليقات